الرباط | عينان يلمع فيهما من الحدة والقسوة القدرُ ذاته من الرأفة والحنان. هاتان هما عينا أنسي الحاج (1937 ـــ 2014) جبهته العريضة تسع سبعة عقود من التفكير. أما شَعره الرمادي المسدول، فقد صار مع تعاقب النهارات والليالي شلّال كلمات. ابن لويس وماري الذي كان يحبو رائقاً في بساتين الطفولة نهاية الثلاثينيات، سيحبو لاحقاً ثم يركض وبعدها يمشي وئيداً بالمزاج ذاته في أراضي الكتابة البعيدة، تاركاً للريح أن تسحبه خلفها من وهدة إلى وهدة، كورقة منسابة أدركت أن عنادها من عناد الريح.
ثلاث سنوات مرّت الآن على رحيل أنسي الحاج، ومرّت ستون سنة على تأسيس مجلة «شعر»، ومرّت سنوات كثيرة على «لن» و«الرأس المقطوع» و«ماضي الأيام الآتية». لكن نصوص الشاعر لم ولن تمرّ إلى «الجوار المخيف» كما سماه بسام حجار، حيث الموت والنسيان.
بقيت وستبقى لأنّ نهراً إنسانياً هائلاً يدفعها كي تعبر حتى السهوب النائية والمنسية، لأنّ أنسي الحاج قد غلّفها وبطّنها بمشاعره، فصارت كل كلمة تأتي منه، تأتي من كهف الحياة المظلم الذي تضيئه من حين إلى آخر أنفاس الشاعر وأحلامه. كانت كلمات أنسي الحاج هي «صعداء الحالمين وراء النوافذ» تماماً كما في مستهل «غيوم»، وكانت قصيدته تشبه تلك المرأة التي وصفها في «قل، ماذا رأيت؟» المرأة التي لها «عينان مشرقتان غائبتان، تقولان الرمل والدخان، تقولان الحلم ودماره».

حين رأيت وجهه الذي بدا لي آسيوياً للوهلة الأولى، أدركت أن هذا الشيطان النبيل سيترك أثره على الطريق لزمن قد لا ينتهي

قبل عشرين عاماً، اكتشفتُ أنسي الحاج. كنت حينها قد أنهيت العقدين من عمري طالباً في الجامعة. زرت صديقاً اسمه ابراهيم الكَراوي كان يخفي علبة كرتون كبيرة تحت السرير، فيها الكثير من الكتب التي ستغير نظرتي إلى الشعر، أنا الذي كنت أكتب منذ الطفولة ما يشبه القصائد أحياناً بدون وزن وأحياناً على البسيط والطويل. في تلك العلبة، كان صديقي الشاعر ابراهيم يخفي جرة الكنز، شعراء من أكثر من جيل وأكثر من بلد، لكن أشياء كثيرة كانت تجمعهم فضلاً عن علبة الكرتون: يوسف الخال، سركون بولص، عقيل علي، محمد الماغوط، عبد اللطيف اللعبي، سعدي يوسف، عباس بيضون، فاضل العزاوي، وديع سعادة، بسام حجار، بول شاوول وغيرهم ممن دار في مدارهم.
من بين تلك الكتب، ستقع عيناي على «الرأس المقطوع»، «لن»، «الرسولة بشعرها الطويل» و«ماضي الأيام الآتية» بأغلفتها القديمة. هواء آخر سيصل إلى رئتيّ، وسيفعل بي هذا الشعرُ ما يمكن أن يفعله بطالب في الجامعة يتعرف بالتدريج على الكتابة التي تسربت إلى الشعرية العربية بعد منتصف القرن الماضي. شعر جديد يعلن الحرب على شعر قديم، لا ليقتله أو يطمس وجوده، بل ليتجاوزه. كانت كلمة «التجاوز» في خطابات شعراء تلك الحركة هي المفتاح بالنسبة لي. كانت أفكار أنسي الحاج وأدونيس عن الشعر الجديد بالنسبة لي تتفوق أحياناً على شعرهما. رسالة أدونيس مثلاً إلى أنسي الحاج ستفعل بمزاجي وبروحي ما لم تفعله العديد من قصائدهما معاً، تلك الرسالة التي يصفه فيها بـ «الشيطان الأصفر».
كنت أتخيل أنسي الحاج - ولم أكن قد رأيت صورة له بعد – شيطاناً أصفر بالفعل، الشيطان الذي يغري الكلمات كي تنحرف عن مجراها المعتاد وتلحق به في اتجاهات ومذاهب أخرى. وحين رأيت وجهه الذي بدا لي آسيوياً للوهلة الأولى، أدركت أن هذا الشيطان النبيل سيترك أثره على الطريق لزمن قد لا ينتهي.

كانت كلمة «التجاوز» في خطابات شعراء تلك الحركة هي المفتاح


كان ذلك قبل عشرين عاماً، في سنوات الانبهار والجنوح بشكل جامح لكل ما يلمع في العيون القريبة والبعيدة باسم «حداثة». في الجامعة، كانت هذه الكلمة تجعلنا نرتدي الجينز والأحذية الرياضية الخفيفة، ونعدّل حتى من جلساتنا وطريقة حديثنا وتفكيرنا. كنا نؤمن بهذه الكلمة كما لو أنها عقيدة جديدة. بعد ذلك بعقد واحد، سيشرع أنسي الحاج في الاختفاء أو ما يشبه الاختفاء من حياتي. نصوص لاحقة ستصل من بلدان بعيدة ستغطي الرأس المقطوع والشعر الطويل للرسولة. ليس لأن الزمن، زمن القراءة، قد تغير فحسب، بل لأني أيضاً صرت متطلباً إلى حد كبير في ما يخص الشعر الذي يملأ العين والقلب.
كدتُ وكدنا ننسى أنسي الحاج. ربما لم أعد مع مرور السنوات ومرور الشّعر ذلك المعجب الكبير بما كتبه الرجل، لكن حين وصلني خبر رحيله تأثرت. تذكرت عنوان أحد نصوصه «مرّ إعصار فلم يقتلع شجرة»، جاء الموت، أخذ جسد الشاعر، لكنه لم يأخذ الشاعر. غير أني رغم ذلك أحسست بأحجار ثقيلة تتدحرج في الأعماق تاركةً الكثير من الكدمات. على كل حال ومهما اختبأنا وراء الاستعارات والمجازات، فقد مات شاعر، شاعر ترعرعت على حب كلماته. بالنسبة لي، العالم يصير أسوأ حين يموت الشعراء. لقد كان رحيله حينها صفعة لي، تلك الصفعة التي ستدير وجهي نحو نصوصه مرة أخرى، لأقرأها من جديد، كما لو أني أقرؤها للمرة الأولى، وبالحب القديم إياه.