كانت حصيلة بريطانيا في الأوسكار متواضعة هذا العام، بل اعتبرت الأسوأ منذ عقود. ولولا استثمار الحكومة البريطانية الحاسم في بناء منظمة «الخوذات البيضاء» والترويج لها كجزء من استراتيجية «أصدقاء سوريا» المزعومين في حربهم على «داعش»، لما تمكّن البريطانيان فون إنسيديل (مخرج) وجوانا ناتاسيغارا (منتجة) من الحصول على الأوسكار اليتيم لبريطانيا عن فيلمهما الوثائقي «الخوذات البيضاء» (40 د).
لكنه تشريف بطعم المرارة، فإنسيديل وناتاسيغارا يعلمان قبل غيرهما أن الجائزة منحت في الحقيقة لعبقري العلاقات العامة الأميركي الذي خلق مهزلة منظمة «الخوذات البيضاء»، لا لمُنْتَجِ البروباغندا الخالصة الذي قدّماه عبر «نيتفليكس».
هوليوود - لمن لا يزال يجهل ذلك - لها باع طويل في صناعة «الحقيقة» كما تريدها النخبة الأميركية. هي تقدم دوماً منتجاتها العالية المأدلجة ضمن أشكال فنية مبدعة لإنتاج السرديات أو إعادة إنتاجها وفق مشيئة تلك النخبة ورؤيتها إلى العالم. وما همروجة الأوسكار البراقة، إلا جزء لا يتجزأ من منظومة العمل المتكاملة هذه للسيطرة على «أنظمة الحقيقة» التي تُفرض بحكم الهيمنة الأميركية شبه الشاملة على الإنتاج الإعلامي. لكنها في دورتها هذا العام حفلت استثنائياً بمهازل كثيرة، ليس أقلها الإعلان المغلوط عن اسم الفائز بأوسكار أفضل فيلم، مروراً بالبيانات السياسية الفجة التي غلبت على الاحتفال بالجوائز سواء من خلال اختيار الأعمال الفائزة، أو من خلال الخطابات «الثورية» - على النسق التروتسكي - لبعض المخرجين والفنانين، الذين انتفضوا دعماً للنيوليبرالية في مواجهتها مع الشعبويين الجدد. لكن المهزلة الكبرى كانت دون شك «الخوذات البيضاء». إنه الصلّف الأميركي!
تقنياً، يقفز إلى ذهن غير المشتغلين في إنتاج «أنظمة الحقيقة» أن الوثائقيات عموماً تسجل الحقائق، لكن ذلك أبعد ما يكون عن الواقع. فالوثائقيات منذ خلقت - هذه نظرية الاسكتلندي جون غريرسون (1898 ــ 1972)، رائد الفيلم الوثائقي - هي «الدين» الجديد (والسينما عنده كانت كنيسة عصر الحداثة) الذي يقدّم للكتل الشعبية الأفكار والمفاهيم كما تريد لها النخبة المهيمنة أن تعتنق وتتبع.
«الخوذات البيضاء» ليس فقط صياغة مختلقة للحقيقة في لبوس الوثائقي خدمةً للمشروع الأميركي - البريطاني - الفرنسي العدواني ضد سوريا، بل هو منتج لا يمت لفكرة الفيلم الوثائقي الكلاسيكي بصلة بوصف مخرجه ومنتجته لم يقوما سوى بعملية كولاج ومنتجة لأشرطة مصورة قدمتها منظمة «الخوذات البيضاء» لا أكثر. لم يصوّر طاقم الفيلم ولو ربع دقيقة من عمليات الإنقاذ المزعومة. كانت المنتجة قد دافعت عن ذلك بقولها إنّها درّبت المدعو خالد الخطيب (المصوّر الخاص لـ «النصرة») في تركيا قبل إرساله لتصوير اللقطات اللازمة للفيلم. مع ذلك، إذا كنت لا تعلم خلفيات الأحداث في سوريا ولا الدور الأميركي فيها، فعندما تشاهد الفيلم، ستجد قصة مشغولة بوعي شديد لتقديم ثلّة من مجنّدي دفاع مدني مسالمين أشبه بالقديسين، يتقدمون وسط الركام والأخطار لمد العون للضحايا على إيقاع أغنية معروفة تبدأ كلماتها بـ «عندما يزحف القديسون». يكاد قلبك ينفطر بالطبع على أولئك المصابين ـ وهم أطفال في غالبهم ـ ويتحول تفكيرك تلقائياً إلى التعاطف مع فرق الملائكة الذين اختاروا اللون الأبيض لخوذاتهم، وتدخلوا للإنقاذ ومد يد العون. هذا هو تماماً دور البروباغندا: أن تتلاعب بعواطفك كي تسيطر في النهاية على أفكارك. وبالنسبة إلى الجمهور الأميركي المحلي، الفيلم بمثابة خدمة لإراحة الضمير. هو أشبه بالربت على الكتف والقول: كم هي إدارتنا محقة في موقفها من المسألة السورية!
لكنّ تدقيقاً بسيطاً في خلفيّات منظمة «الخوذات البيضاء»، سيجعل أي ذي عقل يتحفظ أقلّه على السرديّة الأميركية - البريطانيّة، كما هي في الفيلم الأوسكاري. على عكس ما تدعيه الأكاديمية المانحة للجوائز على موقعها الإلكتروني من أن «هؤلاء المتطوعين المدنيين العزل المحايدين والشجعان يعرضون أنفسهم يومياً للأخطار ويكونون أول من يصل إلى مواقع القصف لتقديم يد العون للضحايا»، فإنّ منظمة «الخوذات البيضاء»، ما هي إلا خدعة علاقات عامة وإعلان أميركية - بريطانية - فرنسية مشتركة. وحتى الآن، أنفقت عليها ـ بصفة رسمية معلنة ـ أكثر من 250 مليون دولار أميركي جاء معظمها من جيوب دافعي الضرائب في المملكة المتحدة والولايات المتحدة، بالإضافة إلى دعم قطري وتركي، وتبرعات من عدد من دول الاتحاد الأوروبي والخليج العربي وأفراد ومنظمات أخرى، من ضمنها مؤسسات معروفة بعلاقاتها المشبوهة بالاستخبارات الأميركية، أو حتى مؤسسات صهيونية صريحة. تستهدف هذه الخدعة توفير مساندة (إعلامية) استراتيجية لجهود التحالف الغربي في الحرب على سوريا، إذ تقوم «الخوذات البيضاء» بدور جهاز دعم - ظاهِرُهُ الدفاع المدني - للمنظمات العسكرية الإرهابية في سوريا كجبهة «النصرة»، ونور الدين زنكي و«جيش الفتح»، و«داعش» وغيرها من الواجهات لتجمعات القتلة الذين تدعمهم وتمولهم وتدرّبهم مخابرات الدول نفسها، في استعادة «مملة» لـ «فيلم» قوات الكونترا وفرق الموت التي روّعت أميركا اللاتينية لعقود.

لم يصوّر طاقم الفيلم ولو ربع دقيقة من عمليات الإنقاذ المزعومة

تأسست منظمة «الخوذات البيضاء» عام 2013 بتدريب أول فوج من متطوعين مزعومين في تركيا بتمويل أتى أساساً من مؤسسة USAID ووزارة الخارجية البريطانية والمخابرات المركزية الأميركية (من خلال مؤسسة الأخوة روكفلر الأميركية المعروفة منذ أيّام الحرب الباردة بأنها واجهة للمخابرات المركزية الأميركية)، وبإدارة جيمس دي مسيرو الجندي البريطاني السابق والمقاول الأمني المعروف في دوائر تأجير القتلة والخدمات الأمنية الخاصة من خلال شركته التي تتخذ مقرها في دبي. ويقدم الهلال الأحمر التركي التدريبات اللازمة لأفواج المتطوعين، بينما تقدم فرنسا المعدات التي تشحن عبر تركيا. كما أنجزت ترتيبات مختلفة لاستمرار تمويل المنظمة مستقبلاً من خلال واجهات مشبوهة مسجلة في هولندا وبريطانيا. انطلقت حملة الترويج الكثيفة لـ «الخوذات البيضاء»- المنظمة عبر جوقة السلاح الإعلامي الأميركي كلها دفعة واحدة: مقالات في «نيويورك تايمز» و«واشنطن بوست»، وتغطيات على CNN، ومؤتمرات عامة وترشيحات لكل جوائز العالم وصولاً حتى إلى «نوبل للسلام» مع دعم استثنائي مكثف على مواقع التواصل الاجتماعي. تولت تنسيق عمليات الترويج هذه، منظمة مشبوهة يمولها البليونير سيئ السمعة أيمن أصفري تدعى «الحملة السوريّة» Syria Campaign وهي نتاج جهد إعلامي مكثّف لدعم المجهود الحربي الأميركي - البريطاني - الفرنسي ضد سوريا تقوم به Purpose Inc. علماً أنّ الأخيرة مؤسسة علاقات عامة ضخمة يرأسها جيريمي هيمانز (هو نفسه مؤسّس Avaaz) وتنشط في بناء وتنشيط الحركات التي تستهدف معالجة قضايا العالم الكبرى وتعمل مقابل عقود بالملايين للتأثير في الرأي العام في خدمة ترويكا الظلام ذاتها. «الحملة السوريّة» هي ذراعها المتخصص في الشأن السوري، وهي رسمياً مسجلة في المملكة المتحدة كشركة تحت اسم مشروع الأصوات The Voices Project، ولا تخفي تلقيها الإعانات من مصادر معروفة باتباعها التام لتوجيهات المخابرات المركزية الأميركية. ووفق موقعها الالكتروني، انطلقت «الحملة السوريّة» عام 2014 بممارسة تعتيم كثيف على الانتخابات الرئاسية السورية التي جرت في حزيران (يونيو) من العام نفسه. وقد ضغطت على مواقع التواصل الاجتماعي وقتها لإزالة كل المواد التي تتعلق بالانتخابات وتبدي تعاطفاً مع النظام السوري. لكن جهود «الحملة» الرئيسية تركزت بعد ذلك على دعم ربيبتها «الخوذات البيضاء» - المنظمة، باستخدام أدوات الإعلام والميديا التقليدية، ومواقع التواصل الاجتماعي، إلى جانب حملة على مواقع الإنترنت تحت اسم «بلانيت سوريا» تركز على الجانب العاطفي لاستدرار جهود المساندة للحرب على سوريا. ومن المعلوم اليوم أن الشركة توظف خبراء تسويق واتصال وعلاقات عامة يتوزعون على مواقع في لندن ونيويورك وبيروت.
أثبتت «الخوذات البيضاء» أنها ضربة معلم على مستويات عدة. لقد وفرت وظائف مدفوعة لعدد كبير من المقاتلين المحليين المنضوين تحت رايات المنظمات الإرهابية المتعددة العاملة في المناطق التي خرجت عن سيطرة النظام السوري، وقدمت جهاز إجلاء وإسعاف بمعدات غربية متطورة لمساندة الأعمال القتاليّة للإرهابيين، وأنجزت عمليات تدمير منظومة الدفاع المدني الحكومية السورية من خلال الإستيلاء على مقراتها ومعداتها، وقتل وتشريد العاملين فيها. لكن الأهم من ذلك تلك السلسلة التي لا تنتهي من الأشرطة المصورة لعمليات البحث والإنقاذ (بعضها ثبت أنه صوّر في تركيا)، والمشاهد التمثيلية المفتعلة لإخراج الأطفال من بين الركام يمثّلها قتلة محترفون. شرائط وفرت ذخيرة ثمينة للإعلام الغربي والخليجي في حربه لفرض منطقة حظر جوي فوق المناطق الخاضعة للإرهابيين في سوريا، وإثارة التعاطف مع قوى الظلام التي أُطلقت في حفلة للقتل والذبح في ذلك البلد الجميل.
«الخوذات البيضاء» - الفيلم هو خلاصة هذه الأشرطة المشبوهة. أنتجته «نيتفليكس» التي يمتلك حصة وازنة فيها البليونير جورج سوروس المعروف بأنه الأب الروحي لـ «الربيع العربي» لكثرة ما أنفق على مشاريع التغيير المدني في دول الشرق الأوسط - خالقاً في طريقه مليونيرات عدة من «الناشطين» العرب. أما كبير المروجين للفيلم، فهو الثنائي كلوني وزوجته اللذان يعملان حالياً على أنشطة عدة ضد الدولة السورية، بما فيها إنتاج فيلم درامي عن ذات «الخوذات البيضاء».
ربما يستحق «الخوذات البيضاء» أوسكاراً دون شك، لكن ليس لـ «نيتفليكس» ولا لمنتجيه البريطانيين، ولا حتى لـ «الممثلين» السوريين فيه. الأوسكار مستحق لوكالة الاستخبارات الأميركيّة على نجاحها المذهل في صنع واحدة من أهم خدع البروباغندا في العصر الحديث من كومة أكاذيب مصورة!