القاهرة | مصادفة يصعب أن تتكرر. بعد أقل من ساعة على تلقي خبر وفاة المخرجة التسجيلية نبيهة لطفي التي رحلت أوّل من أمس في «مستشفى السلام» في المهندسين عن عمر يناهز 78 عاماً، جمعنا لقاء بالنجمة المصرية القديرة نادية لطفي، إحدى أقرب الصديقات للمخرجة الراحلة. دخلنا عليها وهي تتابع عبر هاتفها الخلوي تفاصيل الجنازة التي خرجت من «مسجد السيّدة نفيسة» في القاهرة، لتستعد للمشاركة في الوداع.
لحظة من الصمت، قطعناها بسؤال عن بداية العلاقة. قالت بطلة فيلم «النظارة السوداء» إنّ «أوّل مرّة رأيت نبيهة فيها كانت في مكتب المخرج شادي عبد السلام. وقتها كانت قادمة من بيروت قبل فترة وجيزة. كانت نشيطة ولفتت نظري، ومنذاك أصحبنا صديقتين. تشاركنا في الهم الإنساني والسياسي. أذكر أنّها لم تكن تفارقني أبداً، وتحديداً بعد حرب أكتوبر عام 1973، حيث كنّا نجلس في المستشفيات نساعد الحالات الإنسانية ونتابع الجرحى». وتابعت: «كانت نبيهة تتولّى مهمّة المراسلة الخاصة بالجنود؛ تكتب خطاباتهم، وتستقبل ما يخصّهم، من خلال غرفة عمليات صغيرة كانت تضمّنا داخل المستشفى. وكانت معي على متن أوّل طائرة عسكرية تأخذنا إلى سيناء. لا أنسى اللحظة الأولى لدخولنا «دير القديسة كاترين». لم نصدّق جماله الفني، حتّى أنّ نبيهة أنجزت فيلماً تسجيلياً عن المكان. وكل ما أسعى إليه حالياً هو محاولة عرض الفيلم ثانية، إذ اتفقت مع الدكتور مجدي عبد الرحمن علي، على أن يقوم بترميمه أوّلاً، وبعدها نعرضه في إحدى القاعات». وبقيت نادية لطفي تردّد عبارة «الله يرحمك يا نبيهة».
يبدو أن كلمتَي السياسية والفن هما المفتاح الحقيقي في شخصية المخرجة الراحلة، هي المعروفة في الأوساط الفنية والثقافية بالحكاءة، شديدة الحركة، وبالنشاط. هم يعرفون أنّها لا تتوقف عن العمل أو عن الاهتمام بالآخرين. الراحلة من مواليد مدينة صيدا (جنوب لبنان) عام 1937، تربت في كنف والدها شفيق لطفي، في ذاك «البيت اليساري المفتوح» على قضايا الديموقراطية والعروبة. حين كانت في سن الـ18 وتحديداً عام 1953، طُردت من «الجامعة الأميركية في بيروت» بسبب مشاركتها في تظاهرة سياسية ضد «حلف بغداد»، فما كان منها إلا أنّ غادرت إلى القاهرة في 1955 لاستكمال دراستها.
لم تترك نبيهة القاهرة منذ ذلك الحين، وصارت موطنها. هي أيضاً لم تترك السياسة ولا الفن. لم تتوقف عن المشاركة في العديد من الأنشطة. وفي الوقت نفسه، التحقت بـ«المعهد العالي للسينما»، وتتلمذت على أيدي المخرجين الروّاد أحمد بدرخان، ومحمد كريم، وتأثرت بآخرين مثل توفيق صالح، ويوسف شاهين، وحلمي حليم الذي علّمها أبجدية كتابة السيناريو. صارت نبيهة لطفي جزءاً أصيلاً من نسيج الحركة الفنية المصرية، والحياة العامة أيضاً. وكان منزلها في القاهرة عبارة عن خلية نشطة، وصالون ثقافي لا يتوقف العمل فيه أو استقبال الأصدقاء من كل الجنسيات.
إنّها واحدة من مخرجي جيل الوسط. بدأت العمل بعد جيل الخمسينيات، أي بعد جيل صلاح التهامي وسعد نديم. أسست «حركة صنّاع الأفلام التسجيلية» في مصر بعد جيل الكبار مع هاشم النحاس وعطيات الأبنودي وغيرهما، إضافة إلى عملها ممثلةً ومساعدة مخرج في الأفلام الروائية. أوّل أعمالها كان عام 1969 وحمل عنوان «ألفية القاهرة»، في مناسبة مرور ألف عام على تأسيس مدينة القاهرة. أما آخر أعمالها، ففيلم «عالم شادي عبد السلام» (تسجيلي ـــ إنتاج عام 2014، 95 دقيقة). يقول عنها الناقد محسن ويفي إنّ اهتمامها الأوّل كان بالشرائط الوثائقية، إضافة إلى أنشطة الثقافة الجماهيرية والأنشطة الثقافية، وإنّ في داخلها «حماسة شديدة وحباً ونقداً من منطلق الحب وليس من منطلق المنهج النقدي».

لقّبها شادي عبد السلام
بـ«كرانيش العجوزة» لسرعة انفعالها

بدأت نبيهة حياتها المهنية مساعدةَ مخرج في العديد من الأفلام الروائية، قبل أن تكرّس نشاطها الفني للأفلام الوثائقية. كان فيلم «صلاة من وحي مصر العتيقة» أوّل أعمالها التسجيلية الذي خرج إلى النور عام 1972، لتُتبعه بمجموعة أفلام منها: «تل الزعتر... لأنّ الجذور لا تموت» (1977)، و«عشش الترجمان» (1990)، و«الكونسرفتوار»، و«عـروستي»، و«حسن والعصفور»، و«لعب عيال» (1983).
وشاركت نبيهة في التمثيل مرّات عدّة. لعبت دور شقيقة الخواجة «هاربت» في مسلسل «الخواجة عبد القادر» (تأليف عبد الرحيم كمال ، وإخراج شادي الفخراني ــ 2012)، ودور «فرانشيسكا» في فيلم «رسائل البحر» (كتابة وإخراج داود عبد السيد ــ 2010)، كذلك ظهرت في أفلام «وحدن» (إخراج فجر يعقوب ــ 2014)، و«عين شمس» (إخراج إبراهيم البطوط ــ 2010)، و«عشم» (كتابة وإخراج ماجي مرجان ــ 2013). لم تظهر موهبة نبيهة لطفي في الإخراج والتمثيل فقط، بل أبدعت في الكتابة أيضاً، وخصوصاً عبر قصة وسيناريو وحوار فيلم «الإخوة الأعداء» (إخراج حسام الدين مصطفى ــ 1974).
اهتمت المخرجة الراحلة بالمؤسسات التي ترعى السينما، وأسهمت في تأسيس «جماعة السينما الجديدة» عام 1986، وعملت في «مركز الفيلم التجريبي» تحت إشراف شادي عبد السلام، فضلاً عن مشاركتها في تأسيس جمعية «السينمائيات» عام 1990، إضافة إلى عضويتها في «مجلس إدارة التسجيليين العرب». وحصلت في لبنان على «وسام الأرز الوطني» من رتبة فارس، تقديراً لإبداعها في مجال السينما التسجيلية. كذلك، تُعَدّ أحد المشاركين في تأسيس «جمعية النقاد المصريين»، وكانت بداية انضمامها إليها عام 1972، وانضمت إلى مجلس إدارتها حين كان يرأسه هاشم النحاس، وبذلت جهداً كبيراً في ذلك الوقت.
وكان آخر ظهور لنبيهة لطفي في أواخر نيسان (أبريل) الماضي، حين أقامت لها «جمعية النقاد» تكريماً بحضور العديد من أصدقائها، منهم الناقدة صفاء الليثي، ومحسن ويفي، والمخرج علي الغزولي، وفاروق إبراهيم، والناقدان كمال رمزي وضياء حسني، إضافة إلى عفاف طبالة، وعرب لطفي، وسهام عبد السلام، والمخرجة هالة لطفي، وهاشم النحاس، والمخرج يسري نصر الله، ومصممة الملابس ناهد نصر الله، وأشرف بيومي. علماً بأّنّ محسن ويفي قدّم فيلم «لعب عيال» الذي عُرض خلال التكريم.




شهادات

يروي الناقد كمال رمزي تفاصيل أوّل لقاء جمعه بالمخرجة نبيهة لطفي. كان ذلك عام 1970، وقابلها في القاعة نفسها التي شهدت آخر تكريم: «كانت وقتها منفعلة لخلافها أثناء العمل مع المونتير أحمد متولي، وكانت لا تزال في بداية الطريق وتعرّفت عليها من طريق «جمعية التسجيليين».
عندما أردت رؤية شادي عبد السلام، كان يُفترض أن تقابلني نبيهة في الشارع لتأخذني إليه لكنّها تأخرت». ويلفت كمال إلى أنّها كانت «من الأشخاص النادرين في الحياة. تعرف معنى الصداقة والوفاء، خصوصاً أنّها عند مرض شادي عبد السلام، كانت شبه ملازمة له في المستشفى. وهي أكثر من تأثر عند وفاته». يصفها بأنّها من الأشخاص الذين لا يفرّقون بين الناس، و«أكثر ما يميّزها الحماسة، وتتلمس منها الاحترام الممزوج بالمحبة والرقة الشديدة».
بعدها، يعلّق قائلاً: «فيها من الثراء الروحي ويحق أن نلقبها بأنّها (نجمة في قلوبنا كلنا)».أما المخرج يسري نصر الله، فيوضح أنّه تعرّف إليها في مكتب شادي عبد السلام، إضافة إلى مجموعة من الكبار، منهم صلاح مرعي وعاطف الطيب. «وهناك ذكريات جميلة جمعتنا. أهم ما كان يشغلها هو أحوال البلد بعد نكسة عام 1967، وقد جاءت من صيدا متأثرة بالأحداث العربية» ويضيف: «إنّها تتناول الحقيقة بحب، وعُرفت باسم أطلقه عليها عبد السلام «كرانيش العجوزة»، نظراً إلى أنّها كانت سريعة الانفعال والغضب».