خلال مسيرة حافلة، تمكنت صباح (1927 – 2014) أن تصبح واحدة من ألمع المطربات على شاشة السينما العربية. خلال تلك المسيرة، استطاعت أن تسهم على نطاق واسع بين حركتي الغناء الريفي في لبنان، والغناء المدني في مصر من خلال التعاون مع مجموعة من الموسيقيين والسينمائيين لعبوا دوراً بارزاً في النهضة العربية. لقد نجحت هذه الطفلة الصغيرة التي بدأت مشوارها في الغناء الكنسي في قرية صغيرة تُدعى «بدادون» بالقرب من وادي شحرور من لفت أنظار المحيطين بها. وبطبيعة الحال، نشأت الطفلة على سماع أزجال عمها أسعد الخوري فغالي الذي يُعدّ مؤسس الزجل المنبري في لبنان. ولكن الوضع داخل الأسرة لم يكن هيناً، فقد كانت شديدة التديّن، لا تسمح بسهولة دخول فتياتها في الوسط الفني. وظلت الحال كما هي عليه حتى جاء عام 1943 حين سافرت صباح إلى القاهرة، وبدأت أولى خطواتها الفنية عن طريق أفلام المنتجة اللبنانية المتمصّرة آسيا داغر. في كتابه «صباح نجمة النهضتين المصرية واللبنانية» (دار نلسن ـــ 2017)، يرصد الناقد الموسيقي والمؤرخ اللبناني فكتور سحّاب مسيرة الشحرورة الفنية التي قاربت النصف قرن.ومن خلال حوار معها وصفه بالتاريخي، توّقف سحّاب عند أبرز المحطات الفنية في حياتها من دون إهمال التفاصيل، وذكريات النشأة الأولى.
أشارت صباح إلى أن أول من اكتشفها يُدعى قيصر يونس من بلدة تنورين ـــ وهو زوج شقيقة الفنانة والمنتجة السينمائية آسيا داغر ـــــ بعدما شاهدها تغني، وتمثل في إحدى الحفلات المدرسية. وعندما أبدت له رغبتها في دخول السينما، طلب صورتها حتى يريها للسيدة آسيا. عندها، طلبت الأخيرة استقدامها إلى مصر لتشارك في بطولة فيلمها الأول «القلب له واحد» (1945). لم تكتفِ آسيا بذلك بل نشرت صورتها في أحد أعداد مجلة «الصباح»، وطلبت من الجمهور المساعدة في اختيار اسم فني مناسب لها، حتى وقع الاختيار على اسم «صباح». بعدها، بدأت أقلام الصحافة في الالتفاف حولها، والإشادة بموهبتها الفنية. لقد برهنت صباح خلال رحلتها السينمائية عن قدرة كبيرة في الإفادة من الريف اللبناني الذي نشأت فيه، ودمج هذه الخاصية ـــــ إن جاز التعبير ـــــ في حياتها الفنية داخل مصر. وإلى جانب ذلك، كانت تجمعها علاقات طيبة مع الملحنين المصريين أمثال: زكريا أحمد الذي لّحن لها أغنية «أروح ما أروحش»، ورياض السنباطي الذي لعب دوراً بارزاً في تطويع صوتها الجبلي حتى يلائم القوالب الغنائية المختلفة، وكانت له مجموعة من الألحان أبرزها «يمينك لف شمالك لف»، و«راحت ليالي»، و«حاسديني على حبك ليه»، وكذلك محمد عبد الوهاب الذي لّحن لها «ع الضيعة» و«الأهلي والزمالك»... وإلى جانب ذلك، نجد أسماء كبيرة أخرى حاضرة كفريد الأطرش، ومحمد فوزي، وسيد مكاوي، ومحمد الموجي، وكمال الطويل، وبليغ حمدي، ومحمود الشريف، وأحمد صدقي، ومنير مراد، ومحمد القصبجي. وإلى جانب هذه النهضة الموسيقية في مصر، نلاحظ اشتراك صباح في مجموعة من الأعمال اللبنانية التي غلب عليها الطابع الريفي الشعبي من ألحان فيلمون وهبي، والأخوين رحباني، ونقولا المنّي، وعفيف رضوان، ملحم بركات، ومحمد غازي، وسامي الصيداوي...
ولا يُمكن تجاوز المرحلة المهمة التي أسهمت خلالها صباح في الإعلاء من شأن الأغنية اللبنانية ضمن برامج «مهرجانات بعلبك» (1961) إلى جوار وديع الصافي. شهدت تلك الفترة تألق نجمات الأغنية اللبنانية من خلال ثنائيات صباح ووديع الصافي، وكذلك فيروز والرحابنة.

دمجت تراث الريف اللبناني، في حياتها الفنية داخل مصر
خلال الحوار، تحكي صباح عن الصداقة الطويلة التي جمعتها بفيروز والرحابنة، مشيرة إلى أنّ اللون الغنائي الذي كانت تقدمه، يختلف شكلاً ومضموناً عن تجربة فيروز والرحابنة. تميّزت صباح في هذا اللون الغنائي (أبو الزلف، الأوف، الميجانا، العتابا) حتى أن سيدة الغناء العربي أم كلثوم كانت تصف طريقة أدائها بغير العادية. لقد قدمت صباح أكثر من 300 أغنية مسجلة وإذاعية إلى جانب ما يقرب من 38 فيلماً غنائياً.
وعن صوتها، يقول سحّاب: «امتاز صوت صباح بالجرس الجبليّ، الذي لا تكتنفه بحّة ولا ملمس مخملي. بل إن لصوتها رنيناً نقياً وقماشة يستطيع المستمع أن يميزها بسهولة بين الأصوات. وكانت صباح تمتلك قدرة فائقة على التحكم في الحجاب الحاجز، العضلة الكبيرة التي تفصل القفص الصدري عن البطن. ولهذه العضلة دور كبير في حسن تنظيم النفس، لأنها هي التي تشد الرئتين نزولاً وصعوداً في حركتي الشهيق والزفير. ويعرف الخبراء، ما للقدرة على التحكم بهذه العضلة، من دور في إطالة النفس، في أثناء الغناء، وفي ضبط الصوت كيلا ينشز. وقد تفوقت صباح بطول النفس، لا سيما أثناء غنائها: الأوف، بفضل هذه المقدرة المتفوقة. كذلك امتاز صوت صباح بالقدرة على التغريد، لليونة في حبال الحنجرة لديها. ويعرف المستمع المدقق، أن لهذا التغريد دوراً في الغناء البلدي، على الطريقة التي كان يغرد بها مغنو هذا اللون، مثل يوسف تاج، وغيره». رغم هذه القدرة الصوتية التي امتلكتها الشحرورة، إلا أنها كافحت طويلاً من أجل الاعتراف بها كمطربة في الأوساط الغنائية المصرية. وفي حوار لها مع المذيعة ليلى رستم عام 1966، أشارت صباح إلى أنها كانت تشعر بسعادة كبيرة عندما تشرع في الغناء كأن هذه القدرة تحوّل اليأس لديها إلى طاقة إيجابية. وتعوّل بشكل كبير على الذكاء، فصباح ترى أن الموهبة بدون ذكاء لن تجعل الفنان يصمد لفترة طويلة.
لقد عاشت محبةً للحياة حتى آخر لحظاتها، وتحوّلت أغنياتها إلى حبّات فاكهة وفواتح شهيّة ظلت الأجيال تتناقلها. ورغم البساطة والعفوية التي غلّفت هذه الأعمال، إلا أنها تُوصف بالسهل الممتنع. فمن يُمكنه أن ينسى «البساطة» و«ساعات ساعات»، و«بيقولولي توبي»، و«زي العسل»، و«أحبك ياني» و«يا ابن الحلال» وغيرها؟ إن صباح هي صوت الحياة الذي يظل باقياً على الرغم من صعوبتها.