الأصوات تأتي من الراديو، مِن وإلى، ومِن وإلى. أسماء. عابرون في وطنٍ لا في كلامٍ عابر. حدود عبر الراديو. صوتُ ثابت يخرج مِن الإذاعة، يحمل الأسماء من مكانٍ، ويرميها على مسامع الذين أجبروا على المغادرة إلى مكانٍ آخر. جيلٌ أول وثانٍ وثالث، كما يقول التعليق في بداية الفيلم.
في «خيوط السرد»، تفتح كارول منصور ومنى خالدي الفيلم بالتحيات التي كان اللاجئون يوجهونها من بلدٍ إلى آخر عبر الإذاعة، ثم تذهبان مباشرةً إلى اللواتي حملن التاريخ على أكتافهن. سيدات بذاكرات قوية يستخدمن السنانير والصوف ضدّ الاحتلال والنسيان.
لكل سيدة قصتها. سناراتها. ألوانها المفضلة. الطرقات التي كانت تأخذها إلى المنزل، في القدس، أو في يافا، أو في حيفا. وغيرها. لكل واحدة حربها ضدّ أنماط الهيمنة المختلفة. الاحتلال، الذكورية، نمط الإنتاج الرأسمالي، ويمكننا إضافة الكثير. صحيح أن الفيلم لا يتكئ على ركيزة بصرية متينة، لكنه تسجيلي، وكما يدل اسمه وهو يتبع الأيدي التي تغزل الصوف في سعي لتأكيد ذاكرات صاحباتها. السكان الأصليون الذين لم ينسوا أيديهم في الأثواب، واستعاروا من ذاكرتهم الأثواب التي أجبروا على تركها في المنازل الأولى حيث يسكن الحنين. ليلى خالد، والرحلة الطويلة من صور إلى يافا، والثوب الذي أهدتها إياه والدة الشهيد الفلسطيني، والذي أضيف كخسارةٍ جديدة إلى الخسائر الكبيرة، الفردية والشخصية، خلال اجتياح بيروت. لقد طارد الإسرائيليون الثوب وقتلوه. وقبل ذلك، شوهد أقران لهم في برلين وفي أكثر من مكان وهم يتنزهون بثيابٍ فلسطينية.
في الفيلم، الذي سيعرض اليوم في «متروبوليس أمبير صوفيل»، ويدور في المخيمات والمهرجانات، ستسمع هذه الجملة كثيراً: «أنا خلقت بالقدس»، أو «أنا ربيت بيافا». ملاك الحسين عبد الرحيم تتذكر القدس. أمل زياد كعوش من ميرون، تعتقد أنها ستقيم في حيفا، وتزور ميرون في نهاية الأسبوع. ما لم تضفه أنها كانت لتكون مِثل الجميع، قد تكره الآحاد، وتشتاق إلى حيفا مِن ميرون.

لكل واحدة حربها
ضدّ أنماط الهيمنة المختلفة على رأسها الاحتلال

لكن في حالة كعوش، الملل ليس ممكناً ويقيم الشغف في مكانه. الأيام هي الأيام، والوقت لا ينقضي، أم أنه ينقضي في خيالات «ميرون». نظمية سالم تطرز وتقاوم النسيان بالتطريز والعمل والجهد الرهيب، منذ وقتٍ بعيد. في الماضي، قامت برحلة من النبطية إلى تل الزعتر ثم إلى مار الياس. والذي يعرف تاريخ الفلسطينيين في لبنان ومأساتهم في الحرب اللبنانية، يعرف ما الذي يعنيه ذلك. معاناة فوق معاناة. الخيط تلو الخيط تحيك المرأة الفلسطينية ضدّ النسيان. ومِثلنا تحاول سلمي اليسير من كندا، التي لم تر فلسطين في حياتها، ولكن فلسطين هي والدتها «البيولوجية». والحرائق لا تأكل الحنين. ومثلهن، سارت رائدة طه من القدس إلى عمان وإلى بيروت وإلى تونس، وأخيراً رام الله. ما تبقى. هدى الإمام من القدس، أو ليلى أطشان من حديثة بجانب اللد ويافا. سعاد الأميري تعلّم في بيرزيت، وسيما طوقان غندور تندم على المغادرة. هدى، السيدة التي وقفت أمام منزل والدها، وتركت «الكواشين» مخبأة في منزلها الحالي، وهاج الإسرائيليون الذين أقاموا في منازل ليست لهم، ثم يقولون إن هذه «مشكلة بين الفلسطينيين وبين الحكومة الإسرائيلية»، ويبدو أن الوضع معقد لدرجة أنه لا يمكنهم الإقلاع عن هذه النكتة المستمرة رغم أفول الزمن الكولونيالي وأدبياته.
الإسرائيليون لا يعرفون قيمة البلاط على الأرض، ولا معنى الشرفات، أو القناطر. لا يعرفون شيئاً. وفي فلسطين لا يوجد شيء اسمه عمارة إسرائيلية. ولا يعرفون معنى التطريز والثوب الفلسطيني الذي خرج من الأرض التي استوطنوا فيها، لأنه فلسطيني. وفي أي حال، يمكن وضع «خيوط السرد» ـــ بما أنه يتحدث عن المرأة بكيانها ونضالها ضدّ الاحتلال وضدّ أشكال التمييز في العمل تاريخياً ـــ ضد خطابات اتفاقية «أوسلو» المترهلة. ثمة حاجة ماسة اليوم إلى الانتقال من «بناء مجرد للدولة»، وترداد معزوفة «التنمية»، إلى خطاب مزدوج يعترف بالمقاومة في جميع أشكالها. «خيوط السرد» يقول بوضوح إنّ الاستهلاك ليس حلاً، وأن التنمية لا يمكن أن تكون فردية. وفي فلسطين، يصحّ نقد النظام الليبرالي لتيمات الهيمنة والأيديولوجيا في المجتمع، على طريقة سلافوي جيجك. بعد أوسلو تحديداً، ساد مديح المتعة الاستهلاكية، ما أدى إلى تشكيل «قيم» جديدة، يستفيد منها النظام العام في ترسيخ هيمنته. أما الأيديولوجيا الجديدة، بعد «أوسلو»، فهي تحديد ماهية المتعة عبر سلسلة طويلة من أدوات الهيمنة، أبرزها الإعلام والسينما، وكل ما يمكنه تشكيل «خطاب عام» يخدم الهيمنة. وقد لعبت «السلطات» الفلسطينية دوراً هاماً في الوصول إلى هذا الانحطاط. «خيوط السرد» يأتي عكس هذا الاتجاه تماماً، ضدّ التراجع في مواجهة العولمة. لدى نساء فلسطين ونسوياتها ما يقلنه. وهو ليس مائعاً كخطاب «حقوق الإنسان» بنسخته الليبرالية. لديهن تاريخ كامل ورغبة حقيقية بالمقاومة لألف عام أخرى.

«خيوط السرد»: س:19:00 مساء اليوم ـــ «متروبوليس أمبير صوفيل» ــ يعود ريع العرض إلى البرنامج الموسيقي التابع لـ «بيت أطفال الصمود» في مخيم الرشيدية