بغداد | «الحياة معاملات... كلّ شخص تنتهي معاملته يوماً ما». هذا المقطع الوارد في رواية حميد العقابي «الفئران» (2013 ـ منشورات الجمل)، يلتقي مع منحى رحيله المفاجئ، إذ انتهت فجر أمس معاملته مع الحياة وتوقف نبضه فيها على اثر سكتة قلبيّة.خبر ضجّ لأجله أصدقاؤه ومحبّوه، ممّن عرفوا صدق هذا الكاتب وجرأته التي تجلّت في أكثر من عمل روائيّ وكتابة في السيرة الذاتيّة. مثالنا القريب ما أفصح عنه في كتابه المعروف «أصغي إلى رمادي». واحدة من الميزات التي يتّصف بها مع جمع محدود آخر من الروائيّين العراقيّين، هي تفكيك العلاقات والبنى المعقّدة بين مفهوم التسلّط ممثّلاً برمزه الأعلى «الدكتاتور»، وبين ضحاياه وهم يتقلّبون على جمر العيش في «الوطن الكبير».

وطن وجده سجناً أو معتقلاً، فالبطل في روايته ضحية، يجول بهاجس ثأري: «ها هي روحي وحدها تطوف في المدينة... تبحث عن قاتلها أو قاتليها لتقتصّ منهم». يتحسّس الكاتب تبعات الظلم وظِلال القتلة وهي تمتدّ بحرائقها إلى ما بعد عقود من زوالها وسقوطها، وهو بالضبط ما حصل ويحصل الآن عراقيّاً.
إلى جانب الاشتغال الروائي الذي أصدر فيه أربعة كتب هي «الضلع» (2008 ـ الجمل)، و«أقتفي أثري» (2009 ـ دار طوى)، و«الفئران» (2013 ـ الجمل)، و«القلادة» (2016 الجمل)، أنجز أيضاً العديد من المجموعات الشعريّة من بينها: «أقول احترس أيها الليلك» (1986)، و«بمَ التعلل؟» (1988)، و«تضاريس الداخل» (1994)، و«الفادن» (2005)، و«صيد العنقاء» (2014)، و«التيه» (2015).
في مجموعة «صيد العنقاء»، يعبر العقابي إلى منطقة شعريّة يبرز فيها حساسيته في اللغة والمعرفة، من دون ضجيج أو تكلّف، بمحاورة شاعر وعلامة مثل محمد إقبال (1877- 1938)، ليصارح في مقدّمته القارئ بأنّ لهذا الشاعر الهندي الذي يستدعيه سلطاناً عليه، فراح يستعيده ويناكف مواقفه وارتحالاته، ومنها قصيدة يخاطب بها إقبال من كوبنهاغن: «رجلٌ في الخمسينَ من العمرْ/ يجلسُ في واجهةِ الماخورِ كتمثالٍ/ غطّى قبعةَ الرجلِ الثلجُ/ ومعطفُه البالي لا يسترُ ساقيهِ/ ظننتهُ قوّاداً أو شحّاذاً/ لكنْ، حينَ دنوتُ/ وجدتهُ يحملُ إعلاناً/ وأمامهُ قبعةٌ ملأى بالأوراقِ النقديةِ/ يجمعُ أموالاً لجياعِ الصومالْ».

تفكيك العلاقات
بين مفهوم التسلّط ممثّلاً بـ «الدكتاتور»، وبين ضحاياه في «الوطن الكبير»


في كتابه «التيه (عهد الشاعر)» الصادر عن «دار ميزوبوتاميا» في بغداد، تنهيدات سخّرها في مئة نصّ عن عزلته وانكفائه الذاتي إلى أعماقه، مع الإعلان عما في دواخل النفس من تمرّد وشك، لتكون كتابة تستمدّ نضجها من قيمة التأملات التي تحتضنها تلك التجربة. هنا أحد المقاطع العميقة التي ضمّتها قصيدة «صورة الكاتب في شبابه»: «أغوتني كتبُ الثورةِ/ لكنْ لم اصطحبِ الثوريينّ/ وآثرتُ العزلةَ،/ عاشرتُ النفسَ طويلاً/ فقرأتٌ الأدبَ الصوفيَّ،/ سخرتُ من الحلاجِ،/ البسطاميّ،/ وابن الفارضِ،/ نفرّني النفريّ».
لم يكن الراحل يقرأ الراهن العراقي عبر متابعة نشرات الأخبار التي تذهب إلى سطح الأحداث لا أعماقها. راح يفصّل في منشوراته على الفايسبوك، بمتابعة ظواهر من الحياة العراقيّة، مطلاً برأيه على وجوه الإعلام العراقيّ الجديد، وطبائع الناس وترجمة ذلك في الأغاني العراقيّة واليوميات الاعتياديّة. كان يقرأ الواقع السياسيّ من منطلق وطنيّ رافضاً الآليات الحالية التي تدار بها البلاد. ويوم احتلّ «داعش» الموصل في حزيران (يونيو) 2014، كتب تعليقاً، يمثّل قناعته لما هو مطلوب فعله: «أي حراك تقوده قوى إرهابيّة كداعش وغيرها (أو يتحالف معها بأي شكل) هو حراك باطل، ونتائجه وخيمة... لا لعودة حزب البعث بأية صورة كانت، ومهما كانت الظروف. الانحياز الطائفيّ يتناقض تماماً مع الانحياز الوطنيّ. لا يخرج العراق من عنق زجاجة هذه الأزمة بوجود قيادة نوري المالكي الجاهلة. أيّة موافقة على تدخل أجنبيّ هو عمالة، فتدخل أية جهة خارجيّة يفاقم الأزمة. مفردات مثل عشائر، نخوة، حماسة، طائفة، شعر شعبي، ها خوتي ها... لا تحرز غير الهزائم، فالمعركة ليست «عراضة»، وإنّما خطط تضعها قيادة عسكريّة لها خبرة نظريّة وعمليّة في الحروب».




وداع فايسبوكي

■ «من ضفة الشعر إلى الرواية، انتهى العقابي ليكون واحداً من أبرز كتّاب الرواية في العراق، ظلّ مشغولاً بمهنة الكتابة حتّى الليلة الأخيرة من حياته حيث ودعنا أمس في أحد مستشفيات كوبنهاغن، لترقد روحك بسلام صديقي الجميل حميد العقابي»
(شاكر الأنباري)

■ «لا أدري لماذا قلقتُ عليكَ قبل بضعة أيّام فكتبت لك أسألك عن وضعك، حدثتني فعلاً عن مرض «ليس مقلقاً ولكنّه يتعبني جداً!» وسخرنا من أشياء كثيرة بينها الشيخوخة التي تقتربُ منَّا! لكن ليسَ إلى الحد الذي تكون معه النهاية داهمة وصاعقة بهذا الشكل. في آخر عبارة لي وأنا أودعك: قلت لك عبارة معتادة أفهمهما الآن بشكل مختلف: «أتركك الآن بسلام ونتواصل» فأجبتني في آخر عبارة أصبحت هي آخر تلويحة منك في هذا الزمان: «لك مكان واسع في القلب، مع السلامة!» وها أنت تجعل الأمكنة ضيّقة أكثر فأكثر، والقلوب النقية نادرة أكثر وأكثر. فمع السلامة لروحك يا أبا دجلة ونتواصل في الأبدية!»
(محمد مظلوم)

■ مع مَن سأتحاور في الأدب والفكر والسياسة وحال هذه الدنيا السافلة كما كنت تصفها!
من سيقرأ لي فصول رواياتي ويبدي رأيه ويدققها!
كيف غدرت بنا جميعاً ورحلت فجأة!
كنت أنتظر رأيك في «متاهة الأنبياء» قبل نشرها.
أنت الذي تشجعني على التوغّل فيها أكثر!
كنت أنتظر روايتك التي وضعت لها اسماً افتراضياً هو «حميد الأعزل»!
مع من سأتبادل أسرار الروايات وما خلفها!
كيف سيمكنني تعطيل ذاكرتي وأنت فيها لأكثر من خمسين عاماً يا صديقي!؟.
ماذا سنقول للكوت... مدينتنا الأولى وبستان ذكرياتنا!؟
من سيحفظ نلك الأزقة والشوارع والوجوه التي طواها الغياب غيرك!
(برهان شاوي)