نطالع أحياناً تاريخ رئيس أو ملك، فنجد فيه تاريخ أمة، نسبر أغوار حياة صحافي فنجد فيها صوراً من تاريخ صحافة. وعليه، لا نغالي إذا قلنا إن الكتاب الجديد، الذي أصدره الكاتب المخضرم رياض نجيب الريس، عن الدار التي تحمل اسمه، يؤكد هذه الحقيقة، ويقدم برهاناً على أن بعض الحالات الخاصة، تكون أحياناً صوراً عامة.
بالتالي، يسهل إدراج كتاب «صحافي المسافات الطويلة» في باب السير الذاتية، رغم أنه ليس بقلم الراوي، بل مجموعة حوارات جرت في بيروت ودمشق، دونت بقلم الكاتبة سعاد جروس.
في هذا الكتاب الشائق، لم يترك الريس شيئاً يتمنى أن يعرفه قارئ شغوف إلا وأجاب عنه، من خلال تجارب خاصة في عالم الصحافة والكتابة، اكتنفتها مقابلات مع ملوك رؤساء، التقاهم وعايش عهودهم، وسياسيين وكتاب وناشرين وصحافيين، جايلهم وعمل معهم، وعرفهم من كثب، على امتداد سنوات طويلة في فترات مختلفة من مرحلة مضيئة من تاريخ الصحافة اللبنانية المقيمة والمهاجرة.
في الكتاب قصص طريفة، منها زيارة قام بها نجيب الريس إلى ليبيا للقاء العقيد معمر القذافي. كان الريس يرتدي ثياباً على غير مقاسه، اشتراها على عجل من دكان في ضواحي العاصمة طرابس، لأن حقيبته كانت قد ضاعت في المطار. أثناء اللقاء، اعتذر الريس للعقيد عما كان عليه من لباس، وأخبره بحادثة ضياع حقيبة السفر. حين سأله العقيد ما إذا كانت الطيارة التي وصل عليها إلى ليبيا، تابعة للخطوط الليبية، أجاب بأنها تابعة لشركة الخطوط السويسرية، عندها ردّ القذافي بثقة وقال: «إذن سيجدون الشنطة»!
من القصص أيضاً اكتشاف الريس، القادم من دمشق إلى مدرسة برمانا في لبنان، أن فريدة عقل، معلمته في تلك المدرسة، هي التي علّمت لورنس العرب، اللغة العربية عند مجيئه إلى سوريا ولبنان، وقال: «اكتشفت أنه كانت لي، أنا ولورنس الذي طالما أعجبت به، معلمة واحدة»! ويقول إنه عندما كان طالباً ذهب مرة إلى بلدة فاريا الجبلية، لقضاء عطلة نهاية الأسبوع عند آل الخازن، فأقامت العائلة قداساً في الهواء الطلق، من طقوسه قراءة الإنجيل. طلب الشيخ سليم الخازن إلى الطالب رياض أن يقرأ الطقوس، إذ لم يكن من الحاضرين من يجيد العربية مثله، فقام بالمهمة على أكمل وجه، وحسب التقاليد المارونية. حين انتهى القداس وحان موعد تناول الغداء، سمع كاهن فاريا من أحد الطلبة أن رياض الريس ليس مسيحياً، بل مسلم، فاستشاط غضباً، لأنهم لم يبلغوه بذلك من قبل، ولو عرف ما كان سمح له بقراءة «الكتاب المقدس». عن ذلك، يقول الريس: «أدركت عندها أن ما تعملته عند البروتستانت في مدرسة برمانا، لا يصلح عند الموارنة في كسروان»!
في الصفحة 130، يطالعنا الريس بشيء آخر طريف، فيقول إنه لم يتأثر بحزب البعث، ولم ينتم إليه، وأنه حين تعرف في وقت مبكر إلى مؤسسه ميشال عفلق، وجده «شخصاً عادياً»! وفي مدرسة برمانا، كان معظم رفاقه وأساتذته من القوميين السوريين. لم يتبعهم، لأنهم «قتلوا رياض الصلح، الذي كان أعز أصدقاء والدي نجيب الريس»!
من الطرائف أيضاً حادثة جرت في المعهد المذكور. بعد مرور سنوات على نكبة فلسطين، وثورة عبد الناصر عام 1952، أراد طلبة المدارس في لبنان أن يكون يوم 22 آذار من كل عام، عيد تأسيس الجامعة العربية، عطلة رسمية. يقول الريس: «شكّلنا لجنة كان رئيسها ومحركها والناطق باسمها داني شمعون، الابن الأصغر للرئيس كميل شمعون، وكنت أنا عضواً فيها. تقدمنا بطلب إلى رئيس المدرسة أن يكون ذلك اليوم عطلة، لكنه رفض بفظاظة، ما أثار غضبنا. تنادينا بقيادة داني شمعون إلى الإضراب، والامتناع عن دخول الصفوف، وانقسم الأساتذة بين مؤيد ومعارض. استمر الإضراب يومين. ولاحتواء الموقف، طلب مستر دوبينغ إلى رئيس الجمهورية كميل شمعون، الحضور إلى المدرسة شخصياً، بصفته والد التلميذ الذي يقود الإضراب، وبصفته الرسمية رئيساً للبلاد. جاء الرئيس شمعون وانتزع من المعهد وعداً بالتعطيل في هذا اليوم من كل سنة، ثم نزل إلى الملعب، وألقى فينا خطاباً عروبياً حماسياً. فُك الإضراب وهتفنا نحن الطلاب، بحياة فتى العروبة الأغر، بما لم نهتف مثله من بعدُ إلا لعبد الناصر»!

يصف غسان تويني بأبرع
مايسترو صحافي عرفه

يحكي عن حياته الدراسية في جامعة كمبريدج. يقول عن الشاعر توفيق صايغ الذي كان يعلم اللغة العربية في تلك الجامعة، إنه كان غريب الأطوار، «كان يقصّ أظفاره في ساعة معينة، وفي يوم محدد من الأسبوع، ولم يكن يدخن لعدم قدرته على إشعال عود ثقاب، حتى أنه كان يستعين بجيرانه ليشعلوا له البوتاغاز».
يملي الريس آراءه في ناشرين عمل معهم. عن سعيد فريحة، يقول إنه كان له بمنزلة أب. «كان أستاذاً وصحافياً عملاقاً. لم أجد له منافساً، لا في موهبته، ولا في قلمه، لا في ظرفه، ولا في كرمه». من حكايات يذكرها عن مؤسس دار الصياد أنه، أي سعيد فريحة، سمع مرة من قال له إن الروائي المشهور توفيق يوسف عواد توفي، فطلب إلى المحررين أن يكتبوا عنه خبراً. صدرت الجريدة في اليوم التالي، وفيها الخبر في الصفحة الرابعة، ثم فوجئ سعيد فريحة بهاتفه يرن في ساعة مبكرة من صباح صدور العدد، وصوت توفيق يوسف عواد على الهاتف معاتباً «أنا الذي موّتني في الصفحة الرابعة. ولو يا أبو عصام، الخبر أربعة أسطر فقط، وفي الصفحة الرابعة، أهذا ما أستحقه منك»؟! كان حاتم خوري، الصحافي العامل في «دار الصياد»، هو من كتب الخبر، وحين وصل إلى مكاتب الدار متأخراً ذلك اليوم، سأله سعيد فريحة عن سبب تأخره. فرد قائلاً: «كنت في جنازة توفيق يوسف عواد»!
عن كامل مروة، والفترة التي أمضاها الريس في صحيفة «الحياة»، يقول: «كانت من أمتع فترات حياتي المهنية. أسهمت في تكوين شخصيتي الصحفية، وكان ذلك كله، بفضل كامل مروة؛ الإنسان الرائع، الصحافي والديبلوماسي، الذي علمني معنى حرية الرأي». عن ناشر «النهار» غسان تويني يقول: «كان صاحب أسلوب مميز في الافتتاحية السياسية، وكان أهم جانب صحافي فيه، قدرته على قيادة فريق من مختلف المواهب والنزعات والأفكار. هو قطعاً أبرع مايسترو صحافي عرفته».
عن فرنسوا عقل، يقول: «كان مدير التحرير الحديدي الآمر الناهي في «النهار»، واحتكاكي به لم يكن مشجعاً، لكنه لم يكن صدامياً. كان على قدر كبير من التهذيب، وهو من عائلة صحافية عريقة. كنت أقابل بالحذر جفاءه الواضح تجاهي، ففي تلك الفترة كان نموذجاً للبناني المحافظ، لكن في الوقت نفسه أدركت مهنيته العالية وشخصيته الساخرة واللافتة، وعندما عدت إلى «النهار» للعمل محرراً للقسم الخارجي، كنت على أتمّ الاستعداد النفسي للتعامل مع المحررين، وبالأخص مع فرنسوا عقل، إذ زالت الغربة بيننا بفعل التجربة، وزاد التقدير لمهنيته. كان رصيناً لا يكتب إلا القليل، وإذا كتب لا يوقع».
عن ميشال أبو جودة، كاتب العمود اليومي في الصفحة الأولى من «النهار» والمعلق السياسي الأشهر في لبنان يقول: «كانت علاقتي به مختلفة كلياً. كنت معجباً بقلمه، إلا أني لم أستسغ الكثير من كتاباته. وأظن أنه لم يستسغ وجودي النشط في الجريدة، رغم مظاهر اللياقة والود الواضحين (...) الكيمياء البشرية بيننا كانت معدومة».
عن تجربته في «السفير»، يقول: «كتبت فيها فترة قصيرة. كان طلال سلمان يتسلم المقال من دون أي رد فعل، ولا حتى طيف ابتسامة. عندما انقطعت عن الكتابة بسبب السفر، لم يسأل لماذا لم أعد أرسل مقالات، فاعتبرت أنه اكتفى، ولا يريد المزيد. لم أشعر بانتمائي إلى «السفير»، وبقيت أحّن إلى «النهار»، فهي مدرسة صحافية تعلمنا فيها كيف نضع العنوان، ونضبط الجملة. كنا نصدر قوائم «اكتب لا تكتب» وكان الجميع يلتزمها من دون استثناء، من أصغر محرر إلى رئيس التحرير». لا شك في أن سيرة الريس من السير الغنية في عالم الصحافة، فهو كاتب غزير وضع نحو 30 كتاباً، ومسيرة إنجازاته تشمل صحيفة «المنار» في لندن، ومجلة «الناقد»، ومجلة «النقاد»، ومكتبة «الكشكول» وكان افتتحها في أحد أرقى أحياء العاصمة الإنكليزية، ثم دار النشر التي باسمه، ولا تزال تتنفس، برغم الكوارث المميتة التي أصابت صناعة النشر العربية. هل هناك ما يمكن أن يؤخذ على الريس ومسيرته الإعلامية؟ يقول في الكتاب إنه كان حريصاً على أن تكون مجلة «الناقد» وجريدة «المنار» مستقلتين، ثم نراه يذهب إلى الكويت والعراق وليبيا ويقابل بعض زعماء تلك الدول بحثاً عن التمويل! والريس الذي خبر الصحافة في بريطانيا، يعرف أكثر من غيره من الناشرين اللبنانيين، أن أيّ أداء من هذا النوع، تقوم به صحيفة بريطانية، يعتبر انتهاكاً لحرية الصحافة، ويعرض أصحابها والقيمين عليها للملاحقة القانونية. مهما يكن، تبقى مسيرة الريس مجللة بكثير من النواحي الإيجابية. رغم محاولاته التقرب من باب السلطان، ظل يحتفظ بهامش واسع من الجرأة وحرية الرأي، خصوصاً في حقل الثقافة، حيث تعرضت كتب جدية كثيرة نشرها لمقص الرقيب وشرطي الحدود.