لا ترى مها مأمون (1972) الصورة الشعبية المتداولة بحرفيتها، ولا تستكين لشكلها النهائي. تعيد الفنانة المصرية اختراعها بعدسة جديدة، كأن الصورة أو المادّة البصرية هي مجموعة من القنوات بين الماضي والحاضر، تبقيها مشرّعة دائماً على التعديلات والتدخلات.
هذه الفسحة التفاعلية والتأويلية، هي ما صنع تجربتها الفنية وجعلها كـ «أبحاث» بصرية عبر وسائط الفيديو والصورة الفوتوغرافية والمونتاج. تعيد الفنانة تركيب الصور والعبث بمفاهيمها وسردياتها الثابتة ضمن أطر جديدة، لكنها لانهائية بدورها، وعبر طروحات فنية تمزج الواقع بالخيال، والثابت بالمتحرّك. أفلام الفرنسي كريس ماركر، فيديوهات المواطنين على «يوتيوب»، السينما المصرية، ويوميّات الشارع والصور السياحية. بقدر ما تخترق مأمون هذه الصور وتتدخل فيها، تبدو كمن يطوف عليها من الأعلى عبر بحث فني وثقافي واجتماعي وسياسي ومديني، لا يبتعد عن المجتمع المصري ومآزقه.
يجري شريطها «سياحة داخلية 2» (2008) ضمن هذا الخط الاستكشافي. في العمل (62 د) الذي يقوم على المونتاج، اختارت مأمون مشاهد من أفلام مصرية بين الخمسينيات ومطلع القرن الحادي والعشرين، تظهر فيها الأهرامات الثلاثة كخلفيات لحوارات الممثلين وأفكارهم عن الانتحار والحب والسياسة وغيرها من السرديات في الفيلم. الأهرامات في الشريط ليست أهرامات محصورة بتاريخها ودلالاتها وسردياتها ورمزيتها الأصلية. هذه الأهرامات الثابتة في خلفية القاهرة في الأفلام المصرية، تصادرها سلطة الإعلام وصانعي الأفلام وإسقاطات المجتمع. في الصورة الفوتوغرافية، أنجزت مأمون أعمالاً لا تقلّ تجريباً عن الفيديو، وهي تحاول أن تمنح الصور والمشاهد المألوفة أبعاداً أخرى. في Cairoscapes عام 2003 اخترعت فسحات طبيعية في القاهرة المزدحمة، بنقد ساخر للمشهد المديني المغلق والمكتظ. دمجت مشاهد مدينية لسيارات وأبنية مع قطع ثياب يلبسها المارّة نقشت عليها وروداً. لا تعتمد مها مأمون اتجاهاً واحداً وملموساً في عملها البصري والسينمائي.

تعيد تركيب الصور وسردياتها الثابتة ضمن أطر جديدة وطروحات تمزج الواقع بالخيال
هكذا تبدو تجربتها خاضعة لإمكانات الصورة وقدراتها على اللحاق بهذه الإشكاليات وتظهيرها. تحت عنوان «قانون الوجود»، تزور الفنانة المصرية بيروت في معرضها الفردي الأوّل هنا. يضم المعرض تجهيزي فيديو «زائر الليل ــ يوم أن تحصى السنين» (2011)، و«عزيزي الحيوان» (2016). يختلف العملان من نواحٍ كثيرة، أكان لجانب المادّة البصرية المستخدمة، أم لناحية طريقة المعالجة وغيرها من العناصر. مع ذلك، يحاولان كسر تناغم قانون السلطة وخلخلته. في إحدى الصالتين المتقابلتين في «متحف سرسق» حيث يستمر المعرض حتى حزيران (يونيو) المقبل، عرض «زائر الليل: يوم أن تحصى السنين» (2011). قامت مأمون بمنتجة مقاطع فيديو صورها الثوار الذين اقتحموا أقبية أمن الدولة بالتزامن مع الثورة المصرية. تقبض مأمون على فترة قلبت فيها الأدوار والقوى، وتغيرت الأمكنة التي كانت ثابتة لعقود، بدءاً من عنوان الشريط: «زائر الليل» المصطلح المتداول للدلالة على قوى أمن الدولة وزياراتهم الليلية للقبض على المواطنين في منازلهم. هذه المرّة يقوم الناس بزياراتهم الليلية لتلك الأقبية في القاهرة والدمنهور. نراهم ولا نسمعهم. الصورة في الفيديو غبشة، تهتزّ معظم الوقت. لا صوت للشبان الذين يقتحمون المكان ويصنعون صورتهم بأنفسهم. سنستمع بين وقت وآخر إلى بعض الجلبة الضئيلة. تفتح الجوارير، وتنبش الخزائن. يقع الزوّار على بدلات رقص، وعلى تماثيل فاخرة وأوراق ودفاتر وصحف. ينتزعون الطبقات الكثيفة لذاكرة المكان من دون أن يعثروا على الوثائق المهمّة فيه التي تعنيهم أنفسهم. في «عزيزي الحيوان» (2016) أحدث أعمال مأمون، تعيدنا إلى الفترة التي تلت الثورة المصرية، وكانت بدورها نتيجة لتراكم عقود. لاحظت مأمون في خلال تلك الفترة، ظهور الحيوانات في كتابات أصدقائها ونصوص الناشطين، باستخدامات مختلفة. وراحت تطالعها في الشارع توظيفات جديدة للحيوانات مثل هيكل الجمل المضيء الذي علّقه لحام فوق متجره في القاهرة. مظاهر دفعتها إلى اختيار قصة لهيثم الورداني بعنوان «سلطان قانون الوجود» التي ترتكز على نصّ للقاصّ المصري يوسف إدريس بعنوان «أنا سلطان قانون الوجود». أما النصوص الأخرى في الشريط، فهي رسائل للناشطة المصرية عزّة شعبان التي وجدت نفسها بعد أحداث مجزرة آب 2013 في مصر، بحاجة إلى العلاج في الهند. تمشي القصتان بالتوازي في الشريط (25 د). الجانب الروائي المتحرّك لقصة هيثم الورداني يتتبّع قصة عصابة مخدرات يتحوّل أحد أعضائها، وليد طه، إلى حيوان هجين، هو مزيج من ماعز وحمار وحشي، بينما هو الذي يعرف وحده مخبأ شحنة المخدرات. في المقابل، لجأت مأمون إلى الكادرات الثابتة والبطيئة لتوثيق رحلة علاج عزة شعبان في الهند، يرافقها تسجيل صوتي للناشطة المصرية، تقرأ فيه بعض الرسائل التي راحت تكتبها على فايسبوك لأصدقائها في مصر. تبدو شعبان وتجربتها عيّنة عن المآزق النفسية الفردية ما بعد الثورة المصرية، بينما تشكّل حالة إنسانية أشمل تولّدها الصدمات، وتتمثّل في البحث عن الهويّة وضياعها. تفتتح شعبان رسائلها بعبارة «عزيزي الحيوان»، وتختمها بتوقيع «الدرفيل» (الدلفين) وتسرد بعض يومياتها في التنقل هناك في نظام الطبيعة الذي يتيح لها مجاورة الحيوانات والنباتات والبشر. تتنقّل الكاميرا بين مناظر طبيعية في دارامسالا، وتجمد عند بعض اللقطات. هناك لقطات الداخلية لعزة، وهي مستلقية على السرير مثلاً، وأخرى خارجية للطبيعة في البحر والجبال. أما في الفيلم عموماً، فتتنقل الكاميرا بين العوالم الروائية لقصة وليد طه، وبين تلك الوثائقية لتجربة شعبان. من خلال شريطها تقرأ مها مأمون هذه الظاهرة التي لا تلجأ إلى تبنٍّ ثابت لأيٍّ من المفاهيم. وليد طه يرفض الاستجابة لرئيس العصابة، ولا يطيع أوامره في النطق والكشف عن مكان المخدرات، بينما وجدت شعبان مساحة جديدة ربّما في الهند وفي اقترابها من الحيوانية وعودتها إلى أصلها الدرفيل. لا يقدّم الشريط تصنيفات واضحة للحيوانية، ولا ينطلق من معاييرها المتداولة، بقدر ما يعيد اختبار حدود الإنساني على الصعيدين الفردي والجماعي الذي شهدته مصر بعد الثورة، وهو إعادة تشكيل الحدود والمفاهيم وتبدّل موازين القوى. بتحوّله إلى الماعز، استطاع وليد طه أن ينجو من قانون القوى ويتحدّى مساره المألوف. أما عزّة فتبدو كمن اقترب من هويته الجديدة والمشتهاة. رغم اختلاف بناء السرد في عنصري الشريط، إلا أنه محمّل بدلالات كثيرة، لعلّ أكثرها رسوخاً هو الحركة والتحوّل في التاريخ والهويات والزمن وموازينها.

* «قانون الوجود» لمها مأمون: حتى 12 حزيران (يونيو) ــ «متحف سرسق» (الأشرفية ــ بيروت). للاستعلام: 01/200512