تكاد الأجيال الجديدة تنسى بابلو نيرودا (1904 ــ 1973) وشعره العبقري. في غياب جيل المخرجين العظماء أمثال فيلليني وهيتشكوك وفايدا، هي لم تعد ترى في السينما أكثر من خدع بصرية مسليّة بعدما أغرقتنا هوليوود بأفلامها القائمة على التسطيح والعنف المجاني والجنس المفتعل والرقص المبالغ به والثرثرات الايديولوجية.
لذا، فإنّ «نيرودا» (2016) للمخرج التشيلي المشتعل موهبة بابلو لارين، أشبه ما يكون بصدمة. إذا كان الفيلم يستلهم شخصية الشاعر والزعيم الشيوعي الساحر، فإنّه ليس سوى عبث سوريالي ينطلق من الشخصية التاريخيّة، لكنه يسرد أحداثاً متخيّلة، ويخلق شخصيات ليست موجودة لتتلاقى مع تلك التاريخيّة في لوحات لعب سينمائي مذهل أشبه بشعر نيرودا ذاته: غريب، وعميق ولا ينسى. هكذا، يسترد لارين في طريقه منصب المخرج الرسمي الذي أفسدته هوليوود: نصف إله عابث.
يبني لارين رائعته على نص عبقري كتبه غيليرمو كالديرون في أجواء مطاردة بوليسية مشوقة تستذكر اختفاء نيرودا، السيناتور والديبلوماسي التشيلي والمثقف اليساري رفيع المستوى، مع زوجته الأرستقراطية الأرجنتينية الفاتنة ديليا ديل كاريل لـ 13 شهراً قبل وصوله إلى المنفى، بعدما تجرأ عام 1948 على انتقاد الديكتاتور غابرييل غونزاليس فيديلا علناً لخيانته جذوره اليساريّة وانخراطه المؤسف في الحرب (الأميركية) على الشيوعيين في تشيلي.
المطاردة متخيلة شكلاً ومضموناً لأنّ الشاعر قضى معظم وقته أثناء اختفائه بمساعدة الرفاق في الحزب الشيوعي يكتب قصيدته الأسطوريّة «الجنرال كانتو». وهي تعطي شخصيّة نيرودا (يلعب دوره باقتدار لويس جنيكو) أبعاداً ملونة وتوتراً فنيّاً مشوقاً يرضي ذوق أكثر متابعي الأفلام البوليسية تطلباً في رحلة هربه من عدوه المحقق الأمني أوسكار بولوشونو الشخصية الخيالية (يتألق في أدائها غاييل غارثيا بيرنال) لينتهي بنا في ختامها مشدوهين، مستمتعين، ومتنورين أيضاً بعد زيارة سحرية للتاريخ.
كل ما في هذه المطاردة المفتعلة جميل. الشخصيات متعددة الأبعاد، أداء الممثلين متفوق، النص ذكي ومشوّق، التصوير السينماتوغرافي خارق، الأجواء المستعادة كأنها لوحات تشكيليّة خالدة. حتى الموسيقى التصويريّة كأنها ليست من هذا العالم (الترامبي) البائس. لكن إذا كان يجب أن نتحدث عن أمر واحد فقط شديد السطوع في الفيلم، فذلك سيكون بلا شك شخصيّاته الشكسبيريّة (أو ربما النيروديّة على حد تعبير المخرج).

شخصيات متعددة الأبعاد، أداء متفوق، ونص ذكي ومشوّق


شخصية نيرودا في الفيلم فيها شيء من نيرودا الشاعر الرومانتيكي. لكن تلك الروح يعاد رسمها بألوان جديدة تجعلها أقرب إلى يساريّي الشامبانيا، أولئك الاشتراكيين الذين ينتمون إلى طبقات المجتمع الراقية، وينظّرون لسيدات المجتمع المخملي عن الانتقال إلى النظام الشيوعي بينما هم يحتسون أقداح الشامبانيا. نيرودا في الفيلم، مشغول بكل متع العالم، رغم تعاطفه الأكيد مع زوجته (تلعب دورها مرسيدس موران) لكن من دون شغف. مع ذلك، فإن الإلهام والفكرة اللذين يمثلهما نيرودا الشاعر بوصفه صوتاً عالياً لفقراء تشيلي الذين لا صوت لهم، صورة تستعاد باقتدار تام عند النهاية.
الشخصية النقيضة لنيرودا في الشريط كأنها صورة معكوسة لشخصية الشاعر في المرآة، وربما أعلى ملامح عبقريّة تلاقي النص والإخراج في هذا العمل. أوسكار بولوشونو محقق ذو عناد أشبه ما يكون بعناد شخصيّة المحقق جافيير في «البؤساء»، مع تناقض وألمعيّة شخصيّة كلوزو في «النمر الوردي»، ونوع من انعدام كفاءة محبب كما في شخصيات المحققين تيك وتاك في مغامرات «تان تان». حتى الاسم نفسه ليس اسماً، بل هو تحذلق لغوي على كلمة «بولوش» في الفرنسية والإسبانية التي تشير إلى شخصيات الحيوانات المحشوة التي يلعب بها الأطفال. الأزمة في هذه الشخصية إدراكها المبكر كونها شخصية خيالية تحذرنا حتى قبل أن نراها ــ من خلال لعب دور الراوي في مقدمة الفيلم ــ من مصداقيّة ما تقوله. لكن ما يلبث بولوشونو أن ينطلق منافساً في حضوره الأخاذ شخصية نيرودا نفسه، وفي نسق كأنه «نيرودي» محض: هو محقق بوليسي يهوى الروايات البوليسيّة، يعلق شرفه المهني على مهمة القبض على نيرودا، فيبذل في ذلك جهداً خارقاً، مانحاً سمعة بطل في المنفى لنيرودا الذي يبدو مستمتعاً بتلك المطاردة وكثيراً ما يبعث إليه بتلميحات من خلال روايات بوليسيّة يرسلها إليه.
بولوشونو شخصيّة شديدة التعقيد. هو ابن بائعة هوى يبحث في إطار مطاردته لنيرودا، عن أبيه ممزقاً بين ذائقته الفنية المنفلتة وانضباطه المهني الدقيق. وهو دائم التساؤل مع ذاته ما إذا كان بالفعل شخصية رئيسية في الفيلم أو مجرد شخصية ثانوية. وعندما يقبض على ديليا زوجة نيرودا، تصدمه السيّدة الجميلة بالحقيقة المرّة: إنّه مجرد شخصية ثانوية مساندة في الفيلم ابتدعها نيرودا نفسه ليجعل من قصة فراره من تشيلي أكثر لمعاناً! مع ذلك، فإن بولوشونو يعطينا شعوراً بأنه شخصية حقيقية أعمق بكثير من المدّعين حولنا في أيامنا الفارغة هذه.
التشويق في مطاردة نيرودا – بولوشونو إذن مكشوف. نعلم مسبقاً بأنه من بنات أفكار نيرودا، لكننا مع ذلك نستمر متشوقين لمتابعة تلك المطاردة اللذيذة.
الفيلم بكل عبثه وسورياليته سياسي بامتياز: تحذير من الظلام الدامس الذي كان ينتظر تشيلي على أيدي اليمين الفاشي (وكيل اليانكي في كل دول أميركا اللاتينيّة)، وهو ما عاشته القارة الحزينة عبر معظم سنوات الحرب الباردة، لا سيما في تشيلي تحت حكم انقلاب بينوشيه.
«نيرودا» هو أفضل أعمال بابلو لارين على الإطلاق، رغم أن ما قدّمه حتى الآن يرقى بمجموعه إلى سلسلة تليق بأستاذ سينما من الدرجة الأولى. من أفلامه الأخيرة ودائماً في أجواء تشيلي «توني مانيرو» (2008)، و«بوست مورتم» (2010)، و«نو» (2012)، و«ذي كلوب» (2015»... أعمال تستكشف حدود تناقض النفسيات البشرية بين العمالة والمقاومة، والرذيلة والفضيلة، وكيف تفرض الأقدار على البشر أن يتخذوا مواقف ما كانوا يريدونها. كما قدّم بالإنكليزيّة «جاكي» (2016) الذي يحكي قصة جاكلين كينيدي بعد اغتيال زوجها الرئيس الأميركي الراحل جون كينيدي مع تصرّف مبدع بالشخصيّة يبدو أنه أخذ مداه الآن في «نيرودا».
عُرض «نيرودا» خارج المسابقة الرئيسة في «مهرجان كان» العام الماضي، لكنه طُرح تجارياً في صالات العالم الشهر الحالي، ولا يستبعد النقاد له نجاحاً هائلاً، وإن حذّر بعضهم من أنّ الباحثين عن سيرة نيرودا الشاعر سيصابون بخيبة أمل كبيرة لو شاهدوا الفيلم. فنيرودا هنا ليس نيرودا الشيوعي الجميل كما في السير الكلاسيكية عنه. لكنّ هذه الملحمة السينمائية التامة بكل المقاييس الفنيّة، تذكير لنا بحقيقة أن الشخصيات الثورية ليست خالدة بذاتها مهما كبرت، بل بالإلهام الذي تعطيه للأجيال بعد غيابها. نيرودا لا يعجز مطلقاً عن إلهامنا بشجاعته وانحيازه النهائي إلى كل الفقراء وحتى بالشخصيات الخياليّة التي يمكن أن تستوحى منه. شكراً بابلو لارين. لقد أدخلتنا في أجواء نيروديّة، واسترديت لنا متعة السينما الخالصة.