للمرّة الثانية، عرض «مركز بيروت للفوتوغرافيا» أوّل من أمس، ثلاثة أفلام وثائقية عن مصوّري الحرب الأهلية في Station (جسر الواطي ــ بيروت). الجمعية التي انطلقت في كانون الثاني (يناير) الماضي، ركّزت في الأمسية على الصورة في خلال الحرب الأهلية اللبنانية عبر ثلاثة مصورين لبنانيين هم جورج عازار، ألين مانوكيان وباتريك باز. خاض الثلاثة تجارب مختلفة في الحرب، بدوافع كثيرة جرّتهم نحو الفوتوغرافيا والحرب معاً.
وللمفارقة، فإن المصورين الثلاثة الذين تركوا بيروت بعد الحرب، عادوا إليها أخيراً للاستقرار، بالتزامن مع تخليهم عن «لوثة» تصوير الحروب. تلتبس صورة بيروت بالنسبة إلى هؤلاء. ولا يمكن تجاهل أن صورهم أسهمت في صناعة التباس آخر، أقله بالنسبة إلى جيل ما بعد الحرب الأهلية الذي أتيح له أن يعايشها لكن عبر الصور والسرديات الشفوية والمكتوبة.

أراد باتريك باز أن ينخرط بالحرب الأهلية اللبنانية، فلجأ إلى التصوير

لا ينجو المصوّرون من صورهم ولا من وجوهها. وفي حالة بيروت فإنهم لا ينجون أيضاً من الحرب. كانت حينها الحرب الأهلية اللبنانية، وكانت تلك المرّة الأولى التي يرى فيها جورج عازار بلده. قدم من فيلاديلفيا إلى سوريا، واجتاز الحدود السورية نحو بيروت عام 1981، ثم غادر بعد سنوات قبل أن يقرر القدوم للعيش في العاصمة اللبنانية. كان يصوّر لمجلّة «نيوزويكلي». اعتقلته القوات الإسرائيلية وأحرقت بعض أفلامه، لكنه استطاع أن يخبئ بعضها في ثيابه الداخلية. أما الصور التي أرسلها إلى الصحف الأميركية، فلم ينشر منها الجزء الذي يظهر عنف العدو الإسرائيلي، بل اقتصر النشر على صور المقاتلين اللبنانيين. بعد 30 سنة، جاء جورج إلى المدينة، ليرى الوجوه في حياتها اليومية، لا في لحظات المعاناة القصوى التي كان يلتقطها، للبحث عن «الوجوه خارج إطار الصورة». نفّذ جورج هذه العبارة بحرفيّتها في فيلم «مصوّر بيروت» الذي عرض في «ستيشن» أوّل من أمس (إخراج: جورج عازار ومريم شاهين). بعد ثلاثين عاماً على زيارته بيروت في الثمانينيات، جاء مجدداً، بحوزته مجموعة من الصور التي كان قد صوّرها في هذه المدينة. لمحة على الثمانينيات، تظهر حجم الأحداث الكبرى التي اصطدم بها المصور المولود في أميركا، وتحديداً بعد عام على وصوله. نتحدّث عن الاجتياح الإسرائيلي لبيروت عام 1982.


عاد جورج ليحرّر ذاكرته، أحلامه وكوابيسه من مشاهد انفجار شارع جان دارك، ومجزرة صبرا وشاتيلا وخروج «منظمة التحرير الفلسطينية» في لبنان، ومن ذكرى أشبال فتح المسلحين، و«سنافر» الشياح، ومن «الاجتياح الإسرائيلي». الدافع الشخصي للعودة إلى سكّان الصور، يحاول أن يخمد، بطريقة ما، سؤالاً أخلاقياً وذنباً يسكن المصوّر بعد التقاطه صور المآسي. سيذهب في النهاية ويترك الجميع خلفه. في الشريط الذي بدأ العمل عليه عام 2011، يزور عازار أماكن بعض صوره ليلتقي بأم حسين برجي، وعلي شمص (كاسترو) وغنوة طقوش وغيرهم. وهو إذ يبحث عن الأشخاص، يبدو عازار كمن ينقّب عن أشياء أخرى كثيرة، عن الأصوات والحرائق التي لا تزال في رأسه. خلال الاجتياح الإسرائيلي، وجد جورج نفسه في الجية بالتزامن مع وصول قوات العدو إلى الشاطئ. اختبأ في منزل كانت قد لجأت إليه عائلة فلسطينية هي عائلة مرزوق التي لم يتوانَ عن التقاط لحظات خوفها. عثر عازار على وردة وابنها خالد في أحد المخيّمات الفلسطينية، بينما عثرا على أنفسهما داخل الصورة. هناك أحداث كثيرة وثقها عازار، مثل المحطة الأخيرة لـ «منظمة التحرير الفلسطينية» في مخيّم البداوي قبل خروجها من لبنان. مصطحباً الصور معه، يذهب عازار للبحث عن بعض القيادات التي كانت برفقة عرفات. في بعض المطارح، تصبح الصورة والحاضر في إطار واحد. عندما كان يبحث عن بعض المقاتلين الفلسطينيين، اصطدم بالمواجهات المسلّحة في «البداوي». كان ذلك عام 2011، لا في الثمانينيات. أما إحدى أشهر صور عازار فهي صورة «السنافر» في الشياح التي يجلس فيها شاب مع طفلين هما الزطي وجوقل اللذان التحقا كمقاتلين في حزب الله. بعيداً عن جورج الذي لم يتعرف إلى بيروت إلا عبر الحرب، فإن تجربة المصوّرة اللبنانية الأولى في الحرب ألين مانوكيان تحمل رمزية لنظرة المجتمع إلى المصوّر والمرأة معاً.
يطغى على صور مانوكيان الجانب الإنساني. تبحث عن الأحداث التي على هامش الأحداث الكبرى، عن وجوه الناس وعن الذل البشري. في الشريط القصير Recollections، تصور مع ابنها لدى عودتها إلى بيروت بعد 30 عاماً. منزلها في البطركية تحوّل إلى بناية شاهقة.

تبحث ألين مانوكيان عن هامش الأحداث الكبرى، عن وجوه الناس والذل البشري
تخبرنا عن اقتحامها مجال تصوير الحروب الذي كان محصوراً بالذكور حينها. في الشريط، تعرّف مانوكيان ابنها العشريني إلى الحرب، بعدما كانت قد رفضت فعل ذلك سابقاً كي لا ترثه الثقل الذي ورثته من روايات المجازر الأرمنية. أراد باتريك باز أن ينخرط بالحرب الأهلية اللبنانية.
أراد ذلك لكنه رفض أن ينقاد إلى القتال، فلجأ إلى التصوير. بقي التصوير وبقيت معه الحرب. حين غادر لبنان عام 1988، ظل باز يطارد الحروب. زار ساراييفو والعراق وأفغانستان وغيرها من البلدان. شريط «تحت جلدي» يظهر هذه التجارب وتأثيرها على باز المسكون بالكثير من الأسئلة الأخلاقية عن الفوتوغرافيا ودور المصوّر. هذه الإشكاليات المتعلقة بالفوتوغرافيا وأخلاقيات الصورة، سيضيء عليها «مركز بيروت للفوتوغرافيا» من خلال الندوات واللقاءات التي تهدف إلى إقامة قاعدة فوتوغرافية ثابتة في بيروت. وتهدف الجمعية التي أسسها المصور باتريك باز المصور والمحامي والمصوّر سيرج عقل والمصوّر ميشال زغزغي، إلى تعزيز موقع الفوتوغرافيا كفن بصري أساسي في بيروت والعالم عبر الندوات والمعارض واللقاءات التي تسعى إلى جمع المصوّرين اللبنانيين والمهتمين بالفوتوغرافيا.