تونس | عن عمر ناهز الـ 95 عاماً، شيّعت تونس أول من أمس محمد الطالبي (1921 ـ 2017) إلى مقبرة الجلاز وسط العاصمة لينام بهدوء إلى جانب شهداء تونس وزعمائها ومفكريها وأدبائها بعد مسيرة استثنائية من النضال من أجل إسلام مستنير ضد الكهنوت الديني والاستبداد السياسي.
ولد الطالبي في العاصمة التونسية. بعد حصوله على شهادة البكالوريا من المعهد الصادقي الذي أسّسه خير الدين باشا في القرن التاسع عشر ليكون الفضاء الذي تتلمذت فيه النخبة التونسية التي أنجزت الاستقلال وبنت الدولة الحديثة، سافر إلى باريس ليواصل دراسته في جامعة «السوربون». يومها، اختار التاريخ العربي الإسلامي كاختصاص أكاديمي، فكان من أوائل المفكرين العرب الذين تخصّصوا في ابن خلدون وتاريخه، واختار الدولة الأغلبية (عاصمتها القيروان) موضوعاً لأطروحة دكتوراه الدولة. في منتصف الخمسينيات، عاد إلى البلاد ليسهم في تأسيس الجامعة التونسية وكان أوّل عميد لكلية الآداب والعلوم الإنسانية هناك. أسهم الطالبي في تثبيت التعليم الجامعي في تونس، وتطويره ليكون على مقاس أعرق الجامعات في العالم، خاصة اختصاص العلوم الإنسانية. وهو يعتبر أب معظم المؤرخين التونسيين اليوم. كما تولى رئاسة اللجنة الثقافية القومية التي كانت أهم مؤسسة ثقافية زمن الزعيم الحبيب بورقيبة باعتبارها تشرف على كامل النشاط الثقافي في البلاد لتحصل القطيعة مع النظام بدءاً من ١٩٩٢. يومها، تم عزله بعد كتابته مقالاً في مجلة «جون أفريك» هاجم فيه الرقابة على الكتب، فبدأت مسيرة جديدة للطالبي المناضل السياسي. بعدما كان منذ شبابه قريباً من السلطة، التحق بـ «المجلس الأعلى للحريات» المغضوب عليه من بن علي. وقد بدا الطالبي بسنواته السبعين وقتها صوتاً غريباً، وعانى بسبب مواقفه الكثير من الحصار والأذى إلى حد الاعتداء عليه في إحدى تظاهرات المساندة للحقوقيين والمعارضين قبل ١٤ يناير ٢٠١١.
أهمية المنجز الفكري للطالبي تبقى في دفاعه عن كونية القرآن وعن إسلام حديث يُؤْمِن بالحرية ويتجاوز القراءات الكهنوتية للوهابية والسلفية. كان يهاجم باستمرار «حركة النهضة» ومشتقاتها من أحزاب وتيارات دينية تكفّر المجتمع وتحاصر الحريات باسم الدين. اشتهر في هذا السياق بدحض تحريم شرب الخمر و«الزنا». «فتاوى» أثارت جدلاً كبيراً في الشارع التونسي، خاصة أنّه أعلنها في برامج تلفزيونية تحظى بمتابعة واسعة، مما تسبّبت له بالتهديد بالقتل.
لم تمنع شيخوخة الطالبي من تأسيسه جمعية «القرآنين» وكتابة المقالات وإجراء الحوارات التي هاجم فيها بوضوح الإسلام السياسي وخاصة «النهضة» وزعيمها الذي اعتبره وهابياً خالصاً، وكذّب كل ما يدّعيه من تحوّلات فكرية وإيمان بالديمقراطية. وقد كان الطالبي بسبب هذه المواقف المطلوب الأول لقواعد الإسلاميين الذين واصلوا الهجوم عليه وتشويهه وشتمه وتكفيره حتى بعد رحيله.
برحيل الطالبي، يغلق كتاب المؤسسين للجامعة التونسية إلى الأبد، وهم جيل نادر من المناضلين والمثقفين والأكاديميين الذين أسسوا المنظومة الجامعية والثقافية في تونس الحديثة. ستبقى كتبه مثل «أمة الوسط»، و«ديني الحرية»، و«ليطمئن قلبي» و«مرافعة من أجل إسلام معاصر» وغيرها معالم من أجل إسلام يدافع عن الحرية والمحبة والعقل.