شتّان ما بين «هيكل» في جديد إليان الراهب «ميّل يا غزيّل» (2016 ـــ 95 د - جائزة لجنة التحكيم من «مهرجان دبي 2016»، جائزة لجنة تحكيم الأفلام الوثائقية من «مهرجان تطوان الدولي للسينما المتوسطية 2017»، جائزة لجنة التحكيم الخاصّة في مسابقة الأفلام التسجيلية الطويلة ضمن «مهرجان الإسماعيلية للأفلام التسجيليّة والقصيرة» 2017)، وبين «أسعد الشفتري» في شريطها السابق «ليالٍ بلا نوم» (2012 - 5 جوائز، منها أفضل وثائقي في مهرجان Birds Eye View بلندن).
هوّة كبيرة بين المرتبط بالأرض والجذور، وبين مرتكب الفظاعات في الحرب الأهليّة، قبل أن يتلو فعل الندامة ويطلب الغفران. الشريطان متباعدان أيضاً. الأوّل أكثر بساطةً وهدوءاً وتقيّداً بجغرافيا واحدة، غير أنّهما يشتركان في التسامح كتيمة ودعوة. السينمائيّة اللبنانيّة (1972) احتاجت إلى شريط مسالم كهذا، بعد عمل منهك ومعقّد في نبش المقابر الجماعيّة. بمجرّد قيام صديقتها التي تمارس رياضة المشي في أعالي عكّار بتعريفها إلى «هيكل»، عثرت على «البطل» المطلوب.

أفلمة مستندة على جمالية التوثيق من خلال بساطة
المنظور وأصالة الطرح


هناك (فوق)، يعيش المسيحي الستيني. «الشنبوق» اسم المنطقة. الحدود السورية أقرب من الوصف. قلعة الحصن على مرمى النظر. الأديان والطوائف متلاصقة. التاريخ معشّش في الذاكرة. التأثير متبادل. بين «القبيّات» و«عكّار العتيقة» و«حلبا» والحدود، تبقى الأرض، ويرحل أهلها. هيكل لا يملّ من الزراعة، وإدارة مطعم صغير. تعاونه «رويدة» التي تعتبره أباً وملجأ. صديقه المقرّب «أنطوان» يأتي للزيارة. الخلاف التاريخي بين العائلتين حول الأرض، لم يمنع الرجلين من تجاوزه، واحتساء بعض الأقداح. المناظر خلّابة. الكسّارات مزعجة. الحرب السورية جاثمة. المواسم صراع وجلد وصبر جميل. كثير من المعاني المنشودة هنا. التأصّل في المكان، بعيداً عن الهراء الإثني والطائفي، وفوق ترهات السياسة. الحفاظ على الوجود ضروري للجميع. لا أحد قادر على تعويض الآخر أو أخذ مكانه. الجغرافيا كائن مستقل باقٍ. ملك نفسها، وليس لمن يزرعها كما يُشاع. بحضور هيكل (الأرض) ورويدة (العائلة) وأنطوان (العلمانية)، يلتئم الثلاثي المتمرّد على البنى القائمة. اختلافهم عن «القطيع» ضامن لتحالفهم غير المعلن. كلّ منهم يحتاج إلى ما يمثّله الآخر.
من دون تكلّف، تبني الراهب الثقة مع أبطالها. تنفذ إلى العمق كما اعتادت منذ الروائي القصير «العرض الأخير» (1995)، حول ارتباط فتاة (إليان نفسها) بدار عرض سينمائي لجدّها. في «لقاء» (1996)، بدأت بتفكيك ما بعد الحرب الأهليّة، من خلال اجتماع ثلاثة أشخاص مختلفي الرؤى، يجولون بسياراتهم في شوارع بيروت. بعدها، دخلت المعترك الوثائقي، متابعةً رصد الحروب في القلوب والذاكرة. «قريب بعيد» (2002) عن الانتفاضة الفلسطينية في عيون أطفال من لبنان والأردن ومصر. «انتحار» (2003) عن العرب المنخرطين في غزو العراق بطريقة أو بأخرى. نضج أكبر أظهرته إليان في «هيدا لبنان» (2008 - جائزة الامتياز في مهرجان ياماغاتا الياباني)، عن مخاوف وتناقضات الطوائف. انطلقت من الذاتي (كما الكثير من السينمائيين اللبنانيين)، لتلمّس الشرخ بين الجيل القديم المتشبّث بعصبيته، وقسم من الشباب الساعي إلى التحرّر منها. في السجالي الحاد «ليال بلا نوم»، جمعت الصحافة الاستقصائية مع سينما ما بعد الحرب، لنبش ملف مفقوديها. الحصيلة مقبرتان جماعيتان. جرعة أمل للأهالي، وشعلة حراك للمنظمات الحقوقية المهتمة. بعدها، سخرت في دقيقتين كوميديتين من حال الكهرباء في «محتجلك قوي» (2015).
بالعودة إلى «ميّل يا غزيّل»، نجد بنيةً سرد قائمةً على 3 فصول: هيكل الشنبوق، والأرض، والعتبة (عناوين أحبّها هيكل للفيلم)، وأفلمةً مستندةً على جمالية التوثيق، من خلال بساطة المنظور Perspective، وأصالة الطرح. تسرد إليان الكثير عن ماضي الرجل وحاضره. تسجّل تحوّلات المناخ، وانقلاب الفصول، وتجديد البيت العتيق. مفاجأة أنّ التصوير اقتصر على 11 يوماً فقط. السر أنّه تمّ على مدار عام كامل، مع انتقاء مواعيد التغيّرات المقصودة. هذا مردود التحضير المسبق، والبحث الوافي، في فيلم البطل الواحد (سيناريو وتوليف وإنتاج: إليان الراهب). انكسارات هيكل مرتبطة بأحداث ذاتية وعامّة (الطلاق، هدم المزرعة، الصراع على الأرض، رحيل معظم الأبناء وأهل المنطقة إلى بيروت والخارج...). لذلك، تشدّد العدسة على جمال منطقة، لا يسمع اللبنانيون عنها سوى أخبار الفقر والحوادث الأمنيّة (تصوير جوسلين أبي جبرايل). تخرجها من سجن الصورة النمطية، إلى نقاء الأكسجين ورحابة المدى.
في المحصلة، هذا فيلم مغلّف بالسكّر، وطيب المواسم، وسحر الضيع. قريب إلى القلب، وقادر على منح الأمل، وبعث التفاؤل. ماهر في التذكير بالمنسيات. ليس من باب النوستالجيا الفارغة، وإنّما من الحاجة والضرورة، وحلاوة روح «الذين بقوا». التفاعل بين الطبيعة الصامتة، والبشر المتحدّثين ساحر في التأثير ومغازلة الوجدان. هيكل اسم على مسمّى. لا غريب أنّه راغب في الخلود و«عمل الكونترول» بعد الموت. هو أرض على هيئة رجل.

«ميّل يا غزيّل» لإليان الراهب: بين ١١ و١٧ أيار ـــ الساعة ٦ و١٠ مساءً ـــ بين ١٨ و٢٤ أيار: الساعة ٤ و٨ مساءً