بيروت ليست متآكلة في عدسة وضّاح فارس (1940). لا علاقة لهذا بنوعية الصور التي قبعت في الصناديق لحوالى نصف قرن، قبل أن تنبش وتقدَّم في معرض «بيروت، مدينة لرغبة العالم: سجلات وضاح فارس 1960 ــ 1975» في «غاليري صالح بركات». ما نراه هو الأرشيف الفوتوغرافي للرجل العراقي الذي قدم إلى بيروت، وعمل مصمماً غرافيكياً لبعض الصحف والمجلات، ثم مصوراً هاوياً، وصاحب غاليري Contact في رأس بيروت. شهد فارس على عصر كانت فيه الفنون بكافة أشكالها في طور التجريب وجزءاً من الطابع المديني البديهي في بيروت. عمل مصمماً لجريدتي «النهار» و«الحريّة» ومجلتي «الحوار» و«شعر» ولبعض الكتب من بينها «موت سرير رقم 12» للشهيد غسان كنفاني. تخطت تجربة فارس التصميم الفني، متماهية مع انزياح الحدود بين الفنون في بيروت، حيث الشعر كان يسمع داخل الغاليري، واللوحات تنشر في الصحف، والموسيقى تخرج من الندوات الأدبية. جاءت الكاميرا لتترجم علاقته بصرياً بالمدينة وبفنونها وفضاءاتها الثقافية منذ الستينيات حتى بداية الحرب الأهلية اللبنانية. يستعيد المعرض هذه الفترة، التي يسبقها اسمها «الذهبي»، من التاريخ الثقافي والمدينيي والسياسي للعاصمة اللبنانية. تنبّه فارس إلى أرشيفه الفوتوغرافي الشخصي، منذ بضع سنوات، مما قاده إلى رحلة بحث في الصور مع صاحب الغاليري صالح بركات. شاهدنا بعضها في «مهرجان فوتوميد» قبل عامين. بعد اختيار الصور من العدد الهائل الذي يحويه أرشيف فارس، تمت رقمنتها وتظهيرها في إسبانيا، لنراها حالياً في المعرض الذي يستمر حتى 29 تموز (يوليو)، كأرشيف جماعي بين الماضي والحاضر. العقود الطويلة التي تفصلنا عن تلك الفترة، هي تحديداً ما يعيد اختراع الصور وإحياءها مجدّداً. رغم طابعها التوثيقي، إلا أنّ ثمة ما يجعل من مفعول تلك الصور بالأبيض والأسود، مضادّاً للنوستالجيا وهالاتها انطلاقاً من الجهل ببيروت تلك الفترة، أقله بالنسبة إلى الجيل الحالي.

لوحات من مجموعة «زهرات شارع المتنبي» لعارف الريس، ولوحات زيتية نادرة تصوّر البقاع للفنان رفيق شرف

تأتي الصور لتجسّد بوضوح تلك الفترة بأماكنها، ووجوه صانعيها، مطيحةً بالحضور الخيالي الجامح الذي يربيه الوقت عن تلك الفترة، وغياب الوثائق البصرية عنها، باستثناء بعض الصور، والأفلام المتبقية. يستذكر فارس تلك الحقبة جيّداً، يحكي تفاصيل كثيرة، عن الحياة الصاخبة التي كانت تجري خلف العدسة.
عن اللحظات النادرة والعفوية التي صنعت صوره كما حين أطل سعيد عقل برأسه أمام الكاميرا وهو يجلس في مقهى الـ «هورس شو». يعلن فارس منذ البداية انتماءه إلى الحاضر. يؤكّد أن ما منح تلك الفترة ألقها هو تحديداً اللهاث الجماعي خلف التجديد حيث خرجت أعمال حديثة لا تتنازل عن أصالتها في الوقت نفسه. التجسيد الصوري لبيروت ووجوهها في الغاليري، يخضع المدينة وتجاربها الحديثة إلى مساءلة لم تنل منها طوال تلك الفترة، بفضل الجلبة التي أحدثتها سنوات الحرب. يخرج علينا السؤال بلا مواربة: أين ذهبت هذه الأيام واللحظات؟ وما بقي من أثرها على بيروت التي ورثت السمعة فحسب؟ يحوي ألبوم فارس، سرداً اجتماعياً وسياسياً وثقافياً عن فترة ما قبل الحرب وما بعدها. نرى واجهة بيروت البحرية التي اختفت كلياً، وزوايا من شارع الحمرا تبدلت ملامحها، وأماكن نجهلها تماماً، ووجوهاً صارت بعيدة، وأحاديث خافتة في «متحف سرسق» لأشخاص غابوا كلياً. يستحضر المعرض بيروت من خلال تجربة فارس الشخصية فيها. التنسيق الفني للأعمال، ضمّ بعض تصميمات فارس البصرية، ومجموعته الفنية التي عرض بعضها في غاليري Contact منذ افتتاحها عام 1972، حتى انتقاله إلى فرنسا حيث افتتح غاليري أخرى. نشاهد مجموعة من المجلات ووثائق من الجرائد، وأعمال ومنحوتات لجيل تلك الفترة؛ لوحات من مجموعة «زهرات شارع المتنبي» لعارف الريس حول شارع المتنبي في بيروت، ولوحات زيتية نادرة تصوّر البقاع للفنان ومصمم الملصقات اللبناني رفيق شرف، وتجهيزاً ضوئياً لناديا صيقلي، واللوحات النسوية الرائدة لأوغيت كالان وأخرى للشاعر الراحل سعيد عقل، وبدايات نبيل نحاس، وسميح البابا، وشفيق عبود وحسين ماضي، وفاتح المدرس، ومنحوتات الأخوة بصبوص.
العلاقة مع الكاميرا والتصوير لم تتخذ شكل الاحتراف، أقله بالنسبة إلى وضاح فارس. لعلّه كان ينظر إلى بيروت من خلال الكاميرا فحسب، مأخوذاً بذلك الانفتاح الاجتماعي الذي يترفّع على الهويات والتنوع الأيديولوجي. تحضر وجوه فناني وشعراء تلك الفترة من دون سطوة الفوتوغرافي على شخوصه. تأتي الصور كالهواء الخفيف من ألبومات ذلك الزمن. لكنه وقت انقضى. تنبهنا الصور إلى ذلك، وتنسى أن تفعل أحياناً. أما جهل فارس وقتها باحتمال عرضها في يوم من الأيام، فقد أعفى الصور من أثقال كثيرة. تتخذ الصور شكل حديث بسيط يجري بين شخصين في مقهى، أو حوار صامت بين الممثلة رينيه الديك وخيالها المنعكس على الزجاج في الـ «هورس شو».

في «كباريه فونتانا»، كان الشاعر
والنحات والفنان الألماني ماكس
ارنست يتعلم الرقص الشرقي

تفاجئ العدسة الأشخاص في مكتبهم، وهم يحتسون القهوة، وعند الحلاق، وفي كواليس المسرح. الشاعر أنسي الحاج، وشوقي أبي شقرا، ويوسف الخال وغسان تويني وسعيد عقل، ونضال الأشقر، وليلى بعلبكي، وعارف الريس، وسيزار نمور، والفنان الألماني ماكس ارنست في سوق النحاس في البسطة، وفي سوق الخضار وسط المدينة. لوثة بيروت الثقافية، التي جعلتها أبرز المدن العربية، تمدّدت إلى خارج حدودها. تنصرف عدسة فارس نحو بعلبك ومعابدها ومهرجاناتها التي استضافت أحدث التجارب الفنية حينها، مثل عازف الكونترباص الأميركي تشارلز مينغس، وإلى حفلة كارلهاينز شتوكهاوزن في مهرجانات جعيتا التي توقّفت نهائياً. هناك ما يشبه الاختبارات التي كان يجريها فارس بكاميرته في المكتب والشارع، مثل سلسلة ملصق «الفلسطيني الثائر» لغسان مطر، حيث يرصد الأشخاص الذين كانوا يمرون أمامه في شارع الحمرا. يرفق وضاح فارس، صوره ببعض الأخبار والتعليقات. يخبرنا عن إحساس الشاعر والنحات والفنان الألماني ماكس ارنست بأنه كان لا يزال يفتقد شيئاً قبل مغادرته لبنان. الوجهة إذاً «كباريه فونتانا»، لرؤية الرقص الشرقي وتعلّمه. التقط فارس صوراً لإرنست مع الراقصة الشرقية التي رفضت أن تأخذ بدل أتعابها لأننا «فنانين بين بعض» كما يروي فارس.

«بيروت، مدينة لرغبة العالم: سجلات وضاح فارس 1960 ــ 1975»: حتى 29 تموز (يوليو) ــ «غاليري صالح بركات» (كليمونصو ــ بيروت). للاستعلام: 01/365615