في النهاية، لا احتمالات كثيرة أمامهم. الإعلانات، بمادتها السميكة إحداها. قد لا يتنبهون إلى الواجهة، أو إلى الوجوه الضاحكة المطبوعة عليها. لديهم وجوههم الثقيلة، ثم إنّ هذا ليس خياراً. ولعلّ هذا ما يمنح منازلهم ذلك الوقع الغرائبي لشدّة عاديته.
لدى زياراتها إلى مخيّمات اللاجئين السوريين في البقاع، آذى جوسلين صعب (1948) العنف الكامن في اللوحات الإعلانية التي تصنع منها مخيمات اللاجئين. تجربتها الفوتوغرافية الثانية بعد «عقل ـ أيقونات ـ أحاسيس» (2008)، توثق الحروب الصغيرة على هامش الأزمة السورية، وتحديداً خيم السوريين المعمّرة من الإعلانات التجارية الكبيرة في معرضها «دولار واحد في اليوم» الذي يفتتح عند السادسة من مساء اليوم في «المعهد الفرنسي في بيروت» (طريق الشام ــ بيروت).
تلجأ المخرجة اللبنانية إلى التصوير الفوتوغرافي، والممارسات الأخرى كالرسم والفنون المعاصرة، كاستراحة من الدوامة السينمائية الشائكة. هناك ما يوحّد الصور التي عرضت في اسطنبول والهند قبل أشهر. تلك اللافتات الكبيرة التي تصل أخيراً لتؤدي وظيفة مختلفة متناقضة تماماً مع ما خلقت لأجله. عقود الألماس هي الحجارة التي تسند الخيم من الأسفل، إذ ينفرط العقد. لا يرتكز تلاعب صعب على التناقض بين سكان الخيم والإعلانات في كل الصور. الخيم المعمرة من الإعلانات هي المادة بنفسها، هي السؤال الأول والأخير، بكل استخداماتها ودلالاتها. في صورها بالأبيض والأسود، تضع الخيم أمام أعيننا. الإعلانات والحجارة والدواليب، ثم المشهد البانورامي الذي يصل السماء بالجبل والأرض.
عبر مضاعفة حدّة التضادّ اللوني بين الأسود والأبيض، يتجلى الحضور الشكلي والمادي لما في الصورة. تتسطّح الأشكال وتزداد تنافراً فتجرّد الخيمة من كونها مكاناً للعيش. إنه مشهد مديني متصدّع، بطبقات لامعقولة تبدو كالكولاجات، خصوصاً في الطريقة التي استخدم فيها اللاجئون الإعلانات. الأجساد المقلوبة، والآلات العملاقة، تمنح تلك البيوت بعداً جديداً. تركّز صعب على الإعلانات التي تحوي أجساداً بشرية وآلات كهربائية وماكينات. إلى جانب خيار الأبيض والأسود الذي يسطح الصور، بطريقة مقصودة، يشكّل هذا التوجّه طريقة لمساءلة الخيم وقيمها العمرانية والمدينية من جانبها الجمالي والشكلاني، الذي همّشه الصخب الإعلامي لأزمة اللجوء، ومآسيها المتتالية. هذا رأس يسقط من السماء. الأيادي تتشابك بقوّة من فوق، بينما تكاد تفلت أيدي الأطفال السوريين من أجسادهم الضئيلة. الأسمال المقطبة على الإعلانات تضفي طبقة أخرى.

مشهد مديني متصدّع،
بطبقات تبدو كالكولاجات
إلى جانب همها الجمالي والتقني، فإن صور المخرجة الآتية من خلفية أكاديمية في الاقتصاد، تفضح الصراع الطبقي، والمجتمع الاستهلاكي اللبناني الذي تتلاعب به مجموعة تجار ومصارف، انطلاقاً من أزمة اللجوء السورية. تناقض يغري جوسلين، فتكمل التلاعب بالصور، وتبديل وظائف عناصرها عبر توجّه جمالي مجرّد. تتدخّل بصورها مجدداً. تلجأ إلى الألوان المائية والصباغ لتطفئ الإعلانات، مانحةً أجساد اللاجئين والأرض الترابية اللون الفاقع الذي ننتظره من الإعلانات، لتعود وتصوّر هذه الصور المعدّلة مجدداً. أما الفيديو التجريبي (7 د) الذي يحمل عنوان المعرض «دولار واحد في اليوم»، فيختبر صور اللجوء بأشكال مختلفة تحاكي طريقة عرض الإعلانات. الفيديو الذي يبدأ بمشاهد بعيدة ومتحرّكة لمخيمات اللجوء، سرعان ما يجرنا إلى تمثيلات بصرية متعددة له. النسوة اللواتي يحملن أطفالاً وأوراق اللجوء، في البقاع، سيظهرن في بيروت. بسخرية قاتمة، تقتحم صعب المشهد البيروتي اليومي. يطل الأطفال والنساء من الشاشات الإعلانية الإلكترونية المضيئة، في الأسواق التجارية المثالية، أمام المطاعم والناس، وتحت الجسور وفوقها. المخرجة التي تشبعت شاشتها بالحرب اللبنانية والحروب العربية، تمنح تجليات العنف الخفرة صوتاً يخدش صفو المدينة. طبعت بورتريهات الأطفال السوريين بأحجام كبيرة هي مقاسات الإعلانات، وعلقتها على رافعات مرفأ بيروت. نشاهدها أيضاً في ملعب كرة القدم إلى جانب إعلانات الشركات الكبرى في مجتمع استهلاكي، لا يقدر أن يصرف فيه اللاجئون السوريون أكثر من دولار واحد في اليوم. صعب التي اختبرت معنى اللجوء وخسارة المنزل، حين قصف منزلها البيروتي عام 1982، استطاعت أن تحرّر شخوصها لساعات، وربما للأبد في بعض صور الإعلانات الكبيرة التي جعلت فيها وجوه الأطفال أيقونات مذهبة سنشاهدها في المعرض.

«دولار واحد في اليوم»: 18:00 مساء اليوم حتى 26 حزيران (يونيو) ــ «المعهد الفرنسي في بيروت» (طريق الشام).