بعدسته التي تسعى الى توثيق «الذاكرة السورية السينمائية»، وتحصين «دراما الأزمة» كما أسماها، يدأب المخرج السوري نجدت إسماعيل أنزور (1954)، على دوران كاميراته في البقاع السورية، ملتقطاً أهم المفاصل السياسية والعسكرية، التي حدثت هناك، وتوثيقها درامياً بدءاً من «ردّ القضاء - حصار سجن حلب المركزي» (الصورة) الذي شاهدناه قبل يومين في «مسرح المدينة» في بيروت بدعوة من «مؤسسة الرعاية الصحية والاجتماعية»، الى تحضيره حالياً عملين: الأول يحاكي قضية ما يعرف بـ «الخوذ البيضاء»، والثاني «رجل الثورة» الذي يسرد فيه استخدام الكيميائي «بشكل مفبرك لاتهام النظام السوري».في الكلمة التي ألقاها في «مسرح المدينة» قبل عرض «رد القضاء» (تأليف ديانا كمال الدين ــ إنتاج «المؤسسة العامة للإنتاج التلفزيوني»)، ركّز أنزور على سبب اختيار هذا الفيلم بالتحديد، كونه يمثل الفسيفساء السورية بكل طوائفها ومشاربها، وإرادة هؤلاء ــ مساجين كانوا أم ضباطاً ـــ داخل «سجن حلب المركزي» برفض الظلم ومقارعة الإرهاب بيد واحدة.

يمتد الشريط على مدى ساعتين، ويستقي أحداثه من وقائع شهدتها الفترة الممتدة بين نيسان (أبريل) عام 2013 وأيار (مايو) 2014، مدة الحصار القاهر الذي فرضته «جبهة النصرة»، وكتائب أخرى متشددة مقاتلة (من ضمنها شيشانيون) على سجن حلب. قضى الحصار يومها على أكثر من 600 شخص، وطال أكثر من 4 آلاف سجين عانوا من قهر العيش وانتشار الأمراض، ونفاد المعدات الطبية والغذائية، والبرد القارس. فيلم يتسم بواقعية فجّة، تنقل ما كان يحصل داخل هذا السجن، من مآثر ولحظات إنسانية قاسية، وصراع ما بين الموت والحياة.

ينكب حالياً على عملين
عن «الخوذ البيضاء»
واستخدام الكيميائي

خلطة التوثيق مع الدراما حيث بعض الشخصيات في الفيلم من نسج الخيال، حاكت بطولة الضابط حاتم عرب، الذي وعد والدته بأن يعود حياً بعد كسر الحصار، بعدما سمعت الأخيرة من بصارة عابرة أن جميع أبنائها سيقتلون. لكن، ما يحدث في النهاية أنّ وحده الضابط يبقى حياً، ويصاب في نخاعه الشوكي ويضحي رجلاً مقعداً. ورغم تحقيق وعده بأن يظل حياً، إلا أنّ نهاية مأساوية تحل ّبعائلته. إذ يعدم أفرادها كلهم في قرية «الزارة» السورية، ولا تستطيع الأم هنا «ردّ القضاء»، فتنكث بوعدها لابنها الشاب. حتى إن حبيبته «سمر» التي لم تنتظر خروجه من هذا السجن وذهبت للزواج بآخر، تقتل هي الأخرى بطلق ناري بعد اقتحام قريتها من قبل الجماعات الإرهابية.
هذه القصة الحقيقية، حضر بطلها على خشبة «مسرح المدينة» بكرسيه المدولب. بعد تصفيق حار، منحه السفير السوري عبد الكريم علي درعاً تكريمياً، كعربون تقدير له، على بطولته في هذا السجن. الى جانب قصة الضابط الشاب، تتسلل في شريط أنزور بعض القصص الإنسانية والبطولية من بين مشاهد الدم، وإنقاذ الجرحى ودفن الشهداء، ومشاهد الجوع القاسية وانتشار الأوبئة. من ضمن هذه القصص، الإضاءة على الطبيب جمال البكري (دور عامر علي)، الذي يمكن وصفه بأنه صنع معجزات في مداواة المرضى والجرحى من خلال اجتراحه أساليب طبية مبتكرة تعوض عن نقص المعدات الطبية، ومستلزماتها، من أصغر أمر يتعلق بتعقيم الجروح (اختراع طريقة الماء والملح)، وصولاً الى إجراء عملية جراحية، إنقاذاً للمصاب. مشاهد دموية، وقساوة عالية في المشاهد، يخرجها أنزور، ليختصر الأزمة السورية، كما قال، عبر نموذج حصار سجن حلب المركزي، بوصفه رمزاً لائتلاف شعبي ووطني حلّ بين السجناء الذين قاتلوا الى جانب ضباط السجن، دفاعاً عن هذا المكان، وعن وطنهم في نهاية المطاف، درءاً للإرهاب الذي يزنرّ سوريا.