حين كان الفوتوغرافيون الأميركيون يدشنون طوبوغرافياتهم الجديدة (معرض «طوبوغرافيات جديدة») في كاليفورنيا، لم يجد ألَن سِكولا (1951 ــ 2013) غير عبارة «القنبلة الهيدروجينية» لتوصيف صور ما اعتبر حينها معرضاً تحولياً في المشهد الفوتوغرافي الأميركي والعالمي. تلبست الوثائق البصرية للمشاركين مثل لويس بالتز وروبرت آدمز والثنائي الألماني بيكر، برصانة وجلافة المصانع، والأبنية وصهاريج الغاز وغيرها من الصروح التاريخية.
أفنى هؤلاء الوجود البشري من صورهم، كما تفنيها القنبلة الهيدروجينية. قد تلتقي رؤية ألن سكولا الفوتوغرافية الخارجية مع ما فعلته جماعة الطوبوغرافيا، لناحية الاشتغال المفاهيمي. صحيح أن الفوتوغرافيا عنده تنهل من السياسة والاجتماع، إلا أنه أحيا سمات كثيرة لهذا الوسيط، على النقيض مما فعلته التيارات الحديثة التي أخمدت عناصره لمصلحة التجريد والمينيمالية. هكذا استعار من السينما والمسرح حواراتهما، لحصر توجه سياسي قد يفلت من الصور الفوتوغرافية التي مساحتها التأويل.

وسط التجارب الحديثة، عاد إلى
التوثيق البصري للجماعات المهمشة الذي ظهر بداية القرن العشرين
إذا لم يكن الوسيط الفوتوغرافي شاهداً يقظاً على تبدل علاقات القوى الاقتصادية والاجتماعية، ماذا سيكون إذاً غير وسيلة لاجترار الوقائع والأحداث التي جرت مسبقاً؟ تساؤلات سياسية وظيفية كثيرة رافقت المنظّر والمصوّر الأميركي منذ أوائل السبعينيات، حين أشهر مآخذه وانتقاداته للمدارس الفوتوغرافية الحديثة الذاتية، منطلقاً من النقد الماركسي المبكر لـ «الموضوعية المجرّدة» في الألسنيات، في أعمال باختين ودائرته الأدبية. باللجوء إلى مرجعيات اقتصادية ونفسية وفنية وسياسية مثل آدم سميث، وسيغموند فرويد ووالتر بنجامين، بحث عن محركات ودوافع ومعاني الفن الفوتوغرافي المحكوم بدوره بالتغيرات التاريخية والتكنولوجية. حل سِكولا أخيراً على بيروت في معرض استعادي شامل بعنوان «الفوتوغرافيا في المعمل» في «مركز بيروت للفن» (جسر الواطي ــ بيروت). يعطي المعرض نبذة متعمّقة في هذه التجربة الأميركية المتفرّدة، من خلال حوالى 50 عملاً فوتوغرافياً ونصوص وأفلام من تلك التي صنعت توجّه سكولا الفني، إلى جانب الجهد اللافت الذي قام به المركز لتقديم الفنان الماركسي إلى الجمهور اللبناني، بتعريبه النصوص التي تشكّل عنصراً أساسياً في عمله الفني. يضم المعرض أعمالاً أساسية لسكولا في السبعينيات والثمانينيات وصولاً إلى بدايات القرن الحادي والعشرين مثل «حكايا كليفورنيا»، و«المدرسة مصنع»، و«حكاية سمكة»، و«في انتظار الغاز المسيل للدموع»، و«أوروبا»، و«حكايا شعبية من مصانع الفضاء»، وفيلم «يا نصيب البحر» وبعض المنشورات والكتب. ما لم يستطع سكولا تحاشيه هو التحولات الفنية والسياسية التي شهدتها فترة السبعينيات. ظهور تيارات فوتوغرافية ما بعد حداثية أسست للمدارس المعاصرة، وحرب الفيتنام، والأزمات الاقتصادية الكبرى. وسط تلك التجارب الفنية الجديدة، عاد سكولا إلى الفوتوغرافيا التوثيقية للجماعات المهمشة التي ظهرت بداية القرن العشرين، لكنه أضاف إلى صوره اللغة كعنصر فني. ليس علينا توقّع واحدة من تلك اللقطات الجميلة والصادمة في أعماله. تخلى سكولا عن الهواجس الجمالية البحت. انصرف إلى الصراعات البشرية من منطلق ماركسي حاسم. صوره تعيد إلى العمل والعمال صوتهم الأوّل في وقت أطاحت فيه الآلة القوة البشرية في عالم الرأسمالية العقيمة. الخطوات اليومية التي تجرّ العمال إلى مكان العمل، والخطوات التي ترجعهم منه. هذا الفعل السيزيفي ألهم مجموعة «سلسلة شرائح بلا عنوان» (1972). في نهاية دوام العمل، وقف سكولا مع كاميرته في أعلى الدرج المؤدي إلى مرآب شركة «كونفير ديفيجين» (تابعة لشركة «جنرال ديناميكس» لصناعات الفضاء في سان دييغو). إلى جانب الدلالات الاجتماعية اليومية، فإن رصد سكولا لم يكن بريئاً إطلاقاً، إذ تزامن مع إنتاج صاروخي «أطلس» و«سنتور»، ومع الركود الاقتصادي بعد حرب فيتنام. أزمات ومراحل كهذه تشكّل خلفية ومحركاً أساسياً لأبحاث سكولا وإشكالياته البصرية/ الفلسفية. أما مشاهد الفيلم، فنراها في المعرض وقد تحوّلت إلى صور مستقلة بالأبيض والأسود لوجوه العمال والمدراء الخارجين بعد انتهاء الدوام. الصور المتسلسلة التي تلتقط الناس وجهاً لوجه وتعابير الوجه الوجسد، تجمعها حركة مكررة تحاكي الفعل اليومي العادي للذهاب إلى العمل. عادية، تسكن معظم أعمال ألن سكولا، وهي التي تدعو إلى إعادة النظر في هذه الأفعال مجدداً، ضمن السياق الاجتماعي الأشمل الذي يستحضره الفنان في نصوصه. في غرفة أخرى، تقبع سلسلته «حكايا كليفورنيا» (1973 ــ 1977) التي رد فيها على معرض «طوبوغرافيات جديدة». حاول سكولا إعطاء الأمكنة طعماً أكثر قتامة ضمن نقده الراديكالي لذاكرة المساحات الأميركية. يتضمن العمل نصوصاً ومجموعة ألواح يضم كل منها عدداً من الصور. وكما لاحق سكولا معنى الرسائل التي تحويها الفوتوغرافيا في مقالاته التنظيرية، فإن المعنى في صوره يتكاثف تدريجاً وينجلي مع آخر صورة من السلسلة. هنا فقط سنعلم لم أن هذا المشروع الذي أنجزه الفنان في السبعينيات لم يعرض إلا عام 2012.



نشاهد ثلاثة أقسام من حكايا الساحل في كاليفورنيا: «القرية الفيتنامية» و«حافة المنحدر» و«محاولة لربط الطبقة الاجتماعية بالارتفاع فوق قناة الميناء الرئيسية». الصور بالأبيض والأسود، مقلّة في التفاصيل. هناك أسلاك، وحيوانات وسيارات، وشخوص أمام خلفية مساحات شاسعة وطرقات. ما يفترض أن يكون رحلات طريق على ساحل كاليفورنيا وطرقاته السريعة الطويلة بكل دلالاته، سيتحول إلى طوبوغرافيا اجتماعية كابوسية تعكس أيديولوجيا أميركا العرقية والعسكرية والطبقية. المشاهد السردية المرفقة مع الصور ستكمل المشهد؛ قصص عن الطفل الأسود الذي كان يختبئ من سيارة الشرطة قبل قدومها، وتدريبات الجيش الأميركي في المساحات الطبيعية. في كاليفورنيا أيضاً، يجري سكولا اختباراته الساخرة في «محاولة لربط الطبقة الاجتماعية بالارتفاع فوق قناة الميناء الرئيسية». في صوره الست، يقف سكولا أمام نماذج مختلفة من بيوت سان بيدرو، يقيس بيده الطبقات الاجتماعية العليا والدنيا التي تمثلها القصور وأكواخ الشاطئ البائسة. في «المدرسة مصنع» (1978 ــ 1980)، يطبّق الشفافية الفوتوغرافية بحرفيتها، مع تدخلات تمثيلية تجريبية تتمثل في مجسّم مدرسي بلاسيتيكي مع أنبوب زجاجي مليء بالمجسمات الصغيرة، تحمله يد أحد رجال الأعمال وتظهر في عدد من الصور. يتتبع سكولا في هذا المشروع الرحلة التي تقود العمال من المدرسة إلى المصانع، وما تنطوي عليه من تدخلات وسيطرة السيستم التعليمي والفني والتجاري والذكوري والعنصري العرقي. اللقطات الداخلية والخارجية تظهر أشخاصاً يجلسون في أمكنة عملهم ومؤسساتهم التعليمية؛ فنانين وعمال حديد، وعمال مصانع وصروح تعليمية ومؤسسات تجارية وآلات كبيرة. كما الصورة المتحرّكة، يوزّع سكولا المعنى على لقطاته مرفقاً إياها بتعليقات صغيرة وقصص فردية عن المرأة الهسبانية التي تجري مقابلة وظيفية، سنعرف أنها فشلت في نيلها، والفنانة الثلاثينية التي اختفى اسمها من السوق الفنية بعد أشهر على معرضها الأول... شيئاً فشيئاً، تتبدى السلسلة المحكمة التي تحبس أرواح ومصائر كل هؤلاء في المسرح التعليمي والتجاري الأميركي. تظهر الصور بداية دخول الكومبيوتر والآلات، يقابلها إصرار سكولا بالتركيز على العنصر البشري الذي يظهره في حياته اليومية العادية، محولاً هذه المهمات اليومية إلى حالات قصوى بذاتها. في المعرض أيضاً «صحوة التايتانيك» (1998 ــ 2000) التي تكشف وجه الرحالة لسكولا، بتنقله على ضفاف البحار.

حوالي 50 عملاً فوتوغرافياً ونصوص وأفلام مثل «حكايا كليفورنيا» و«المدرسة مصنع» و«حكاية سمكة»


السخرية حاضرة في العمل الذي يفتتح بصورة من ثلاثة أجزاء لسكولا وهو يسبح أمام منزل بيل غيتس على شاطئ سياتل عام 1999 بالتزامن مع التظاهرات الاحتجاجية ضد منظمة التجارة العالمية المجتمعة في المدينة ذاتها. مع هذه الصورة، كتب سكولا رسالة إلى بيل غيتس، يتساءل فيها بتهكّم عن شراء رجل الأعمال الأميركي لوحة ونسلو هومير لصيادين فقيرين على ظهر مركب يغرق. الرحلة تنطلق من سياتل لتجوب شواطئ روسيا وقبرص ولشبونة واسطنبول... لرصد أوجه العولمة التي تشهدها البحار نزولاً عند توصيف الاقتصادي الاسكتلندي آدم سميث لعالم البحار بأنه أكبر لعبة يانصيب. هذه العبارة دفعته مجدداً إلى التعمق في عالم البحار في أحد أبرز مشاريعه: كتابه ومجموعته «حكاية سمكة» التي نشاهد فصلين منها في المعرض بسبب ضخامة العمل الذي يحاول استكشاف تاريخ السوق التجارية والصناعية عبر البحار. يقتطع البحار والشواطئ من صورتها النوستالجية، ويظهرها كوجه أساسي من وجوه العولمة حيث العمال والسفن والحمولات الثقيلة. وبعيداً عن البحار، نشاهد أيضاً «في انتظار الغاز المسيل للدموع»، بورتريهات المتظاهرين ضد منظمة التجارة العالمية عام 1999. في بورتريهاته الجمالية (35 مم) التي تعرض على الشاشة يقدّم الفنان نقداً للصور الصحافية اللاهثة خلف الأحداث الصاخبة، إذ لا نرى لقطة واحدة للعنف الذي تمارسه الشرطة على المتظاهرين. المعركة لا لبس فيها، وعليها ترتكز صور المتظاهرين التي تبدو كأيقونات للصراع العالمي ضد الرأسمالية.

«الفوتوغرافيا في المعمل» لألَن سِكولا: حتى 29 أيلول (سبتمبر) المقبل ــ «مركز بيروت للفن» (جسر الواطي ــ بيروت). للاستعلام: 01/397018