تعريب اسلام الشهال
غادرت هدى أيوب عائلتها وطلّابها ومحبيها في 18 حزيران (يونيو) الماضي، مخلّفة وراءها فراغاً كبيراً كانت قد ملأته على مدى ثلاثين عاماً كأستاذةٍ للغة العربية في الـ «المدرسة العليا للأساتذة» في باريس رافقت خلالها مسيرة أجيالٍ من طلّاب ومحبي اللغة والثقافة العربية من غير النّاطقين بها.

أضحى كثيرون منهم من أبرز الاختصاصيين في العالم العربي في المجالات كافة. أسهمت بكلّ محبةٍ وشغف في تعزيز الانفتاح في مسيرتها التّعليمية من خلال رحلات ونشاطات الانغماس الثقافي التي شكّلت النواة الأولى لإطلاق فعاليّة «الأسبوع العربي»، جنباً إلى جنب مع طلّابها، مشاركين في التخطيط والتّنظيم وحتى ترجمة القصائد والنّصوص. هدى أيّوب التي لطالما أكدت على مدى تأثير طلّابها بها، تركت أثراً أكبر وأعمق في طلّابها الذين ودّعوها بحرارة وحزنٍ بالغَين. ودّعوا الأستاذة والموجّهة والأم التي رافقت مسيرة أجيالٍ من التقارب الثقافي الفرنكوفوني - العربي. «الأخبار» تنشر هنا مقتطفات من حوار أجرته معها الباحثة كولين أوسيه (مجلة «أستاذة في باريس») عام 2015 على هامش الدورة الجديدة من «الأسبوع العربي»

■ لمدة ثلاثين عاماً كنت أستاذة في «المدرسة العليا للأساتذة»، وكان لك تأثير دائم وإيجابي على أجيال من المستعربين. لنبدأ بالحديث عن مسيرتك الأكاديمية والشخصيّة؟
أنا أفضل أن نعرّف الهوية ــ أي هوية ـــ بأنّها معرفة الهويّة الأخرى أو الوسيطة التي من خلالها نستطيع أن نرى أو نفهم تلك الأخيرة.

هذه الطريقة أشبه بمعيار. يقوم هذا المعيار بدور «شبكة المصفاة» التي تصبح العنصر الأساسي لتكوين الهويّة. وقد كنت محظوظة لأنني استطعت أن أكوّن نظرة فرنسية من خلال الهوية العربية، وأن أكون النظرة العربية من خلال الهويّة الفرنسيّة. ولدت وترعرعت في لبنان، حيث تلقيت دراستي الأساسيّة وأصبحت أستاذة في الأدب واللغة الفرنسيّين. بدأت بالتدريس بتعيين حكومي عام 1982 في إحدى ثانويّات بيروت. سرعان ما أدركت أنني لا أستطيع تحمل الوضع القائم في تلك الحقبة: بعض طلّابي في صف الشهادة الثانويّة انخرطوا في الميليشيات والحرب المسلّحة الجارية. بعدها، تابعت دراساتي العليا حتى درجة الدكتوراه في فرنسا. وهناك تعرّفت إلى المحيط الاستشراقي وبدأت أتلقّى عروضاً للقيام بترجمات أو بمراجعات للنصوص والمخطوطات. بعد ملاحظة عملي وتقديره، عرضوا عليّ قراءة النصوص. كنت قد توقفت عن دراسة اللغة العربية منذ الثانوية، ولكنني اكتشفت شغفي بهذه اللّغة حين بدأت بتعليمها لغير الناطقين بها والراغبين بتعلّمها. هكذا افتتحت صفحة جديدة في حياتي المهنيّة في باريس، وضعتني في قلب ثقافتي الأم: لقد تغيّرت تماماً من دون أن أتغير في داخلي لأنني شعرت بنوعٍ من الاتساق بين الثقافتين. شغفت بالتعليم، تماماً كما كنت أحب أن أبقى حاضرةً بعمق في ثقافتي الأم من خلال ترسيخ الثقافة الفرنسية. لا أعرف بالضبط كيفية القيام بهذا الأمر، لكنّه حدث فحسب. هذا يلخّص كل شيء. لا يوجد انتماء أو هويّة لا تمرّ عبر شبكة انتماء آخر لتمييز رؤيتها، خاصةً في منطقة المتوسط.

■ يعتبر كثيرون بأنّك الشخص الذي فتح الباب على مصراعيه للدراسات العربيّة في الـ «المدرسة العليا للأساتذة» في باريس.
ليس كذلك فعلاً، الشخص الفعلي الذي أدخل الدراسات العربية هو دانيال ريغ. لكن أعتقد بأنّ استلامي لدروس اللغة العربيّة أعطى الأمر بعداً أكثر شموليّة، بمعنى أنّني استلمت 93 مبتدئاً لتأهيل دفعة لا يصل عددها إلى 150 طالباً، وهو رقم ضخم. كان لديّ حب وإعجاب كبيرين للغة العربيّة لا يوازيه سوى حبّي للتعليم. لقد كنت شغوفة بعملي. علّمتُ في مدرسةٍ كنت أجهل قيمة تأثيرها لأنني لم أكن أعرف حينها النظام الفرنسي جيداً. مع مرور الوقت، تأكدت من مدى شعبية الثقافة العربيّة. ثم سارت الأمور كامتداد لمهنتي في التعليم: بدأت باصطحاب طلابي أثناء فترات التدريب في الخارج كلّ عام. إلى جانب الصفوف، تضمّنت هذه الرحلات مؤتمرات ونشاطات الانغماس الثقافي الضرورية لفهم المجتمع، مثل زيارة سكّان المقابر في القاهرة أو ترتيب لقاءات في المدارس القرآنية والكتاتيب.

وصلت صفوف الحاضرين
للقاء ادوارد سعيد حتى
حديقة لوكسمبورغ!


■ خلال ثلاثين عاماً هل لحَظتِ تطوراً في اهتمام الطلاّب باللّغة والحضارة العربيّة؟
نعم ولا. الدراسات العربية عموماً تجذب الأشخاص ذوي الفضول تجاه الآخر، بالمعنى المباشر والأكثر إساءة: هذا الآخر الذي لا يشبهني. لا يوجد حالة واحدة عامّة، بل هناك خصوصيّة لكلّ حالة، فنحن نتعامل مع أفراد لا يريدون حصر اهتمامهم بفرنسا وأوروبا، بل على العكس يحرصون على تعلّم أشياء كثيرة مختلفة وعلى الانفتاح على الآخر. هناك أشخاص مهتمون باللغة العربية باعتبارها لغة ميتة. آخرون مهتمون بأشياء لا تخطر حتى في بالنا. على سبيل المثال، كان لديّ طالب مجاز بالرياضيّات، أراد أن يقرأ نصّ مخطوطة في الجبر تعود إلى القرون الوسطى كان قد رآها في المغرب. هذا الاهتمام باللغة العربية يطرح تساؤلات تراود كلّ واحدٍ منّا، بطريقةٍ غير مباشرة أحياناً.

■ تتواجدين على رأس شبكة من المستعربين، حيث العديد منهم/ منهنّ أصبحوا/ن في مناصب رفيعة!
بدأت بتعليم اللغة العربيّة عام 1985، وبقيت على اتصال بالكثير من طلابي القدامى. لن أذكر أسماءً محدّدة حتى لا أجرح الذين سوف أنساهم، لكن مرّ في صفي الكثير من المتخصّصين المعروفين أيّاً كان هذا التّخصص: مترجمون، أساتذة باحثون، وزراء... أحبهم جداً، جميعهم، لأنّه على عكس الاعتقاد السائد بأنّ الأستاذ وحده القادر على التأثير في الطلاب، ولكن الطلاب هم أيضاً يؤثرون في أساتذتهم، هم الذين يحملون الشعلة التي في داخلك، ويبقون على رغبتك في التعليم أو في نهل المزيد من المعرفة في ميدان تخصّصك. ولا يتوقف الأمر عند طلابي في الـ «المدرسة العليا للأساتذة». لطالما قمت برعاية طلاب اللغة العربية من مختلف المدارس والجامعات.

■ حدثينا، كيف انطلقت مغامرة «الأسبوع العربي» الجميلة؟
خلال رحلاتنا الدراسيّة، ولدت الرغبة لدى طلّابي بتنظيم الأسبوع العربي في «المدرسة العليا للأساتذة». أردنا أن نطلع النّاس بطريقة عفويّة وطبيعيّة على الأمور التي كنّا محظوظين بتعلّمها خلال رحلاتنا ودراستنا. كنّا نستلهم موضوعاً كلّ أسبوع أثناء إقامتنا في تلك الرحلات، ومن ثمّ نقوم بوضع وتطوير البرنامج سويّة وِفق الدّروس التي أراد الطلاّب سماعها: أردنا استضافة إدوارد سعيد، وقمنا بذلك بالفعل. أراد الطلّاب استضافة كتّاب يمنيين ترجمنا نصوصهم، وقد نجحنا في ذلك أيضاً، استضفنا محمود درويش والكتّاب الفلسطينيين، وأدونيس... حققنا كلّ ما أردناه بالوسائل المتوافرة والمتاحة لدينا. وفي كلّ مرّة كنّا ننجح فيها فعاليّة رائعة، كنّا نقرّر أننا لن نجعلها مدفوعة بل ستكون مجانيّةً بهدف إتاحة اكتشاف هذه الثقافة لكلّ الجماهير.

ما حدث ليس مشكلة الإسلام بل مشكلة المجتمع الفرنسي

حرصنا في كلّ مرة على البحث على أفضل الاختصاصيين شرط أن يكونوا متحدثين بارعين وقادرين على نشر الهدف المنشود وجذب أكبر عدد ممكن من الحضور. وهكذا أبصر مشروع «الأسبوع العربي» النور عام 1998. قدّم «الأسبوع العربي» الكثير للطلّاب من خلال إيجاد مساحة للصداقة تسمح لهم بالتواصل ليس فقط مع أساتذتهم، بل مع زملائهم أيضاً.

■ هل يتجاوز صدى فعاليات «الأسبوع العربي» جدران العالم الأكاديمي؟
نعم، على سبيل المثال زيارة ادوارد سعيد أو محمود درويش. ادوارد سعيد لم يستطع القدوم أثناء فترة الفعاليّة. ولذلك استضفناه بشكل استثنائي قبل برنامج الفعالية بأيام. كان مريضاً جداً وشعر بتوعك صحيّ حينها. مع ذلك، وصلت صفوف الحاضرين حتى حديقة لوكسمبورغ، كان ذلك مدهشاً! أما بالنسبة لمحمود درويش، فقد امتلأت الصالة، حتى إنّ الحضور بقوا واقفين على أرجلهم لساعاتٍ من أجل سماعه. كان كذلك مشهداً عاطفياً جداً. كان يقرأ قصائده باللغة العربيّة ثم يتبعه أحد الطلاب بقراءة الترجمة التي أعددناها باللغة الفرنسيّة، كان ذلك رائعاً.

■ تتحدثين عن الشعر كثيراً، هل للقصيدة مكانة واهتمام خاص ضمن فعاليات «الأسبوع العربي»؟
بالطبع، برنامج الفعاليّة ممتلئ بقصائد عربيّة مترجَمة. نحن نقوم بتوجيه دعوات عالميّة للكثير من الفنانين والشعراء والروائيين مثل صنع الله إبراهيم وجبّور الدويهي، ولكن الشّعر له أهميّة خاصّة، لأنّه أحد أكثر جوانب الثقافة العربيّة التي يتم إغفالها والأكثر إثارةً أيضاً.

■ حدّثينا عن فعالية الأسبوع العربي لعام 2015 الذي تناول «الخيال والواقع».
أردنا أن نواجه البؤس الذي شعرنا به بعد أحداث «شارلي إيبدو»، وأحداث سوريا، العراق، اليمن وغزة، هذا البؤس الذي بدأ الناس في العالم العربي يعتادون عليه. هناك تناقضٌ بين حجم الأشياء في الواقع وبين ردة فعلنا هنا. نحن لا نتفاعل إلا في أحداث معيّنة: قد تدمّر مدينة بأكملها من دون أن نتحدث عن الأمر، في حين أنّ ارتداء امرأة الجلباب يصبح خبراً يتصدر الجرائد والصحف! أحداث «شارلي إيبدو» صدمتنا، أصبحنا مثل أولئك الذاهبين للحرب ويريدون استخدام كل الوسائل المتاحة. تم وضع جميع المسلمين تحت دائرة الاتهام، وأصبحت هناك حالة من الارتياب تجاههم. أجد ذلك غريباً جداً.
أردنا أن نقول إنّ حرية التعبير في خطر: الحال كذلك حين نعيش تحت ظلّ نظام شموليّ مثل سوريا، أو نظامٍ قائمٍ على التعذيب وقتل كل مخالفٍ له في أبسط الأمور، ولكن ليس في بلدٍ حيث يمكننا أن نقول ما نشاء مثل فرنسا! الجهاديّون الذين اقترفوا هذه الجرائم المروّعة ليسوا في السلطة، فلماذا التعاطي مع الأمر كما لو كان الأمر كذلك؟ من أين يأتي هذا الجنون؟ نكرر مرةً أخرى أنّ ما حدث سابقاً ليس مشكلة الإسلام بل مشكلة المجتمع الفرنسي.

في عشرين تشرين الأول (أكتوبر) 2017، تقيم «المدرسة العليا للأساتذة» في باريس تكريماً رسمياً لهدى أيوب، فيما يهديها «الأسبوع العربي» دورته القادمة التي تجرى في الربيع المقبل.