في معرضها المقام حالياً في «مؤسسة الشارقة للفنون»، تقدم سيمون فتال نبذات متنوعة من أعمالها في النحت بالطين والخزف، تطرح أسئلة الحاضر الملحة عبر مرايا التاريخ البعيد الذي لا ينقطع، فيما منحوتاتها تسائل الحرب من جديد.
ستتوقف رغماً عنك أمام إحدى اللوحات، وسوف تجد حتماً قشعريرة تسري في جسدك حين تقرأ "قانا" و"دير ياسين" و"صبرا" و"جنين" متصدرة المشهد، بحروف نُبشت على سطح اللوحة الحجري. حروف غير منمقة، بعيدة تماماً عن جهود رسامي الخط العربي في تتبع انحناءات الحروف وفقاً لقواعد متعارف عليها، بل كتبت سيمون فتال أسماء هذه المدن العربية بتلقائية جميلة، بأحجام متباينة منها الكبير والصغير، كما لو كانت يد طفل صغيرة هي من خطتها، أو ربما خطها على عجل أحد ضحايا الغارات والمذابح الإسرائيلية التي شهدتها تلك المدن. وتتداخل مع هذه الكلمات جملة "والمطر سيكون رصاصاً إلى الأبد" وهي تنويعة على قصيدة إيتيل عدنان "سيكون المطر للأبد مصنوعاً من طلقات" والتي صارت عنوان اللوحة.
وستحار أمام إعجاب زائري المعرض من الأجانب بهذه اللوحة وتوقفهم طويلاً أمامها، مثل هذه السيدة الأميركية الهندية أو تلك الإنكليزية التي جذبها العمل رغم حروفه العربية المبهمة بالنسبة إليها. وبعد قليل من التأمل، ستدرك أن الأمر يتجاوز المعنى وأنه يتعلق بهذا المزيج العجيب بين التشكيل وبين المادة المستخدمة في العمل. ستلتقط أن الشجن والحنين ينشآن من تآلف مادة الحجر البركاني مع التشكيلات الحروفية، هذه المادة الأزلية، البدائية التي تحمل طبقات التاريخ والحضارة بلون الأرض الطينية النابضة بالحيوية والحياة عند لقائها بالكلمات المتساقطة بعفوية وفطرية مثل زخات المطر، تصرخ فوق السطح الصلب من دون الحاجة إلى فك شفرتها.
معرض سيمون فتال الذي افتتحته «مؤسسة الشارقة للفنون» ليكون باكورة معارض الربيع المتميزة في الإمارة، لا يجمع فقط أعمال الفنانة من الطين والفخار والحجر البركاني التي تميزت بها على مدى 35 عاماً، بل يضم أيضاً موجزاً من كل أنواع الأعمال التي برعت فيها، من أعمال النحت والخزف التجريدية واللوحات التصويرية والكولاج. عُرفت فتَال بانشغالها بهذه الوسائط الفنية الطبيعية في أعمالها لتعبر عن موضوعاتها المستلهمة من الحرب والتاريخ القديم، إذ ترى في رجوعها إلى طبقات الزمن السحيق وسيلة لفهم أعمق للحظة الراهنة من خلال التوغل في معرفة التاريخ: «الحقيقة أن الماضي لا يتوقف ليفسح المجال لعصر جديد، لكنه زمن واحد ممتد، تتكرر عبره الأشياء ونعيش نفس القصة منذ زمن حضارة بابل حتى اليوم» كما توجز سيمون فتال التي درست الفلسفة وتعلقت تعلقاً جماً بالأدب والأسطورة والكتابات الصوفية.
هذه الرؤية للتاريخ والاهتمام بالسياقات الاجتماعية التاريخية للحرب التي شكلت وعيها كفنانة لبنانية، هي ما يجمع الأنواع الفنية المتباينة المظهر مثل مجموعة الكولاج شديدة الحداثة التي تحمل عناوين مثل «أثينا»، أو «تدمر». تعكس هذه الأعمال طبقات التاريخ القديم وطبيعة المكان الجغرافية والبيئية ومؤشرات الحياة اليومية وإعادة تشكيل حدود الحضارة والوطن، أو مجموعة اللوحات بالأبيض والأسود وهي الأحدث من بين مجمل الأعمال وقد عنونتها "تفاوتات الأسود والأبيض"، وتبدو كما لو كانت جانب من مختبر الفنانة في بحثها حول علاقة الكتلة بالفراغ من خلال تضاد الأسود والأبيض، ولا تجد تفسيراً لعكوفها على هذه المجموعة خلال العامين الماضيين سوى أنها أصرت أن تصنع كل يوم لوحة بشكل تلقائي، تتجاوز فيها كل التفاصيل، وتحتفي فقط بمساحات اللون.
قانا ودير ياسين وصبرا وجنين تتصدر المشهد

وإذا نظرنا إلى هذه اللوحات بما تثيره من تأملات في العلاقات الحدية والجدليات التي تحكم عالمنا اليوم، فضلاً عن مجموعة لوحات "جبل صنين"، أو مجموعات الخزف والمنحوتات الأشبه بحفريات من أزمنة غابرة، سنجد ارتباطها العضوي بنشأة الفنانة وتأثرها بزمن الحرب اللبنانية وولعها بالأدب منذ بداياتها. ولدت سيمون فتال في دمشق ودرست الفلسفة والأدب في جامعة الـ «سوربون» في باريس، ولم تبدأ الرسم إلا في 1969، «حين كنت صغيرة، كان الأدب أهم شيء في حياتي. لم يكن هناك فن حديث في بلادنا، فأول لقاء لي بالفن الحديث كان في أوروبا». وحين اندلعت الحرب، سافرت فتال إلى الولايات المتحدة في 1980 وتوقفت عن الرسم وأسست دار نشر «بوست ابوللو بريس» التي عنيت بالإنتاج الأدبي للكاتبات على وجه الخصوص، وترجمت العديد من الأعمال الإنكليزية ومنها كتابات في التصوف. واكتشفت في هذه الفترة ملحمة "الأميرة ذات الهمة وابنها عبد الوهاب"، فكانت الكنز الذي استلهمت منه العديد من شخصياتها الفنية مثل الجن والخيول ومنحوتة المحارب أو قطعتي "الأميرة ذات الهمة" و"عبد الوهاب".
في عمل "المحارب" الضخم من الطين، تتجلى شعرية الحذف والتجريد. يتجسد أمام أعيننا النصف السفلي للمحارب، ورجلاه العملاقتان مثل مارد، وضعيتهما في حالة حركة وحيوية تعززها الثنايا وانحناءات القطعة النحتية. انه مجاز أدبي وفني للمحارب بنصفه الأسفل (مساراته والطريق المحدد له بعيداً عن العقل وخياراته؟). أما النصف الأعلى فقد تم حذفه ليحل محله مقبضان يستدعيان فكرة المطية كما لو كان المحارب تقوده خطاه إلى أهداف حرب لا دخل له بها. وفي منحوتة أخرى، تأتي كلمات الآية القرآنية «وما رميت إذ رميت لكن الله رمى»، لتعيد ربما طرح سؤال الانسان المخير أو المسيَر في قضية الحرب الموجعة.
أما عن ملحمة الأميرة ذات الهمة، فترى الفنانة أنّ هذه الملحمة التي كُتبت في زمن «ألف ليلة وليلة»، لم يلتفت إليها كثيرون ولم تحظ بالاهتمام الكافي «فكلما رجعنا إلى قصص الماضي، وجدنا العديد من نماذج تحرر المرأة». كما لم تُترجم الملحمة إلى اللغات الأخرى، بحسب الفنانة، رغم أنها تقدم نموذجاً للمرأة العربية القائدة التي نجحت فيما أخفق فيه الرجال، وتمكنت من توحيد الصفوف بين القبائل المتناحرة والقضاء على العدو الخارجي. في 1989، عادت فتّال إلى العمل الفني بكثافة وشاركت في ورش رفيعة المستوى في النحت بالسيراميك أو الطين والحجر البركاني، مثل "هانز سبينر" في مدينة غراس الفرنسية، أو في مؤسسات الفنانين الإسبانيين تابياس وشيليدا. تستقر سيمون فتال وتعمل اليوم في باريس مستحضرة دائماً في أعمالها مشاهد "جبل صنين" وألوانه الزهرية وقت المغيب، والحرف العربي المحمل بالحكمة القديمة، وحضارة الهلال الخصيب التي لا تفوتها حين تمسك بقطعة الطين "الحية".

* معرض سيمون فتال: حتى 12 حزيران (يونيو) ـــ مساحات عرض «مؤسسة الشارقة للفنون» ــ sharjahart.org