لا يأخذ الفن لدى الفنان اللبناني - الفرنسي إيف كجك، دور الوسيط . ذلك أنه يقود دور المساءلة والمرافعة. مرافعة الابن عن أبيه، حيث لا يتصل الأمر بدعوى ولا بدعوة. يتصل الأمر بإعطاء حظ جديد، لواحدة من المدارس التشكيلية الكبرى في العالم. التكعيبية.
وسط العلاقات الألفية الجديدة المتشابكة، لا يصفي الرجل حساباً ولا يخلق جهاز تصوير، لأن الرسام والملون والتشكيلي يجيء إلى التكعيبية، من عالم خياله، بما يستثيره العمل الفني في خياله. قصص حب وخيالات مؤمثلة وكل ما له علاقة بالفقد، باللوحات الكثيرة المرشوشة بترتيب وأناقة على جدران «المعهد الأنطوني» في منطقة الحدث (يستمرّ المعرض حتى بعد غد الاثنين). الرقص الصوفي، رقص الفلامنكو، الآلات الموسيقية. الأخيرة، في معظمها، آلات عربية. مصارعة الثيران. شخصيات من مسرحيات شكسبير. كل الكائنات والأدوات على قماشات لا تفقدها. كل موضوع في مجموعة. موضوعات عربية، غالباً، لا تلبث أن تضحي لوحات تجريدية، إذ تجرد أشكالها لا يلبث أن يحيلها مشاهد كونية. كل ما أخذه العرب إلى الغياب، هنا. الفلامنكو، الشاهد على آخر المعارك الخاسرة للعرب المسلمين في الأندلس. هجرة الخبط على الأرض، عند وداع الأرض. مثال. لا أهمية. مع ذلك، تنبع الخطابات المعتمدة من الواقع الأولي في لوحات كجك. لأن كل القصص واقعية، بالضرورة، وهي تتسلل من الغياب أو التخييل. هذه لوحات علاج. علاج من المقصيات إلى المنسيات، بيد لا ترتعش وبروح تشدد بلدياتها على الورق المقوى أو القماش، على لدغات الزمن الماضية.
لا يقع الفنان في سذاجة الأفكار، حين يحتفظ بالحنين إلى الكثير من الأشكال السعيدة، وهو يكنس أوهام الواقع من قلبه غير المهزوم بقوى الألفية. لا يرغب في خلق الماضي البائد إلى الأبد. بالعكس. يستبدل الزمن بالزمن، بجمعهما في أجزاء العصر الصناعي وتشكيلاته. هذه إشارات اللوحات الواضحة. بدون اكفهرار أو اكتئاب . خروج من الإرباك، حيث يطبع التكعيب بسطوح مكعباته الخفية والظاهرة، حدائق الألوان ببساطة البديهة وقوة الحرفة في النشر الفاضح لرسائل الحب، بنوع من التسلسل المتفاعل. الألوان فرحة، لا بهدف أن يسر النظر، بل بهدف يتعلق ــ على نحو أكثر مجازية ـ بتمجيد الحياة في نسق لا يمكن أن يطرأ من دون حرية. لا يمكن أن يطرأ، بدون روحانية، من أجواء التأملات ودعوات الحلم المغروزة به.
أمر فن وشعر. لا لعنات انتقامية ولا صراعات عقيمة ولا حملات تحرير. لا يزال التكعيب، يكلف البعض عناء قطافه. زهرات رقيقة في أحيان، وأشواك جارحة في أحيان أخرى. تمجيد الحب بتعريفاته الجسدية الأنانية، أحياء الغرباء والأحياء الغرباء، بفن لا وطني، يخلق المركز الفني لفنان كوسموبوليتي النزعة، كما يخلق الدرب، بالتزامات مجتمعية، لا تتورط إلا بشروط التفكير في اللوحات المعاصرة. القديم يتعصرن. لا أحسب أن هذا هم إيف كجك (يونس كجك). هم كجك الإبداع بصورة صحيحة في سياق محدد، ينقلب على التحديد، حين لا يؤخذ بالغلو الأسلوبية ولا بالهوية، بعيداً من البدائيات والفنون الطقوسية. عبور حدود تُعرِّف بالهويات، كما قال رانسيير. كل لوحة سرادق، لا تعالج مسائل، باستثناء أن يعاد تعريفها، بكل أشكال التأويلات، بعيداً من الترجمات. لوحات بلون واحد. لا ردود فعل على ذلك باللوحة.

رقص الفلامنكو، مصارعة
الثيران، شخصيات من مسرحيات شكسبير حاضرة هنا

رد الفعل من الجمهور، على نزعة اللوحة. حمل لغة مرئيّة، جمالية، جديدة، تثري وتغير ما لدينا، عبر إدراك حدود التجربة، تكسير الحدود، بالفكر البشري، حتى تضحي مادة حية. لا ظاهرة لغوية. ظاهرة حركيّة لا ظاهرة لغوية. لا خيار، هنا، إلا خيار التجريب. تكوينات تؤرخ لتصدعات العالم. تصدعات يعبر عنها بالطبقة اللونية الواحدة والطبقات اللونية العديدة بلوحات، لا تؤكد أن واحدة من مآثرها، أن يغدو وزنها الحقيقي، من وزن الكشوف المؤلمة أو التجليات الرمزية لقوى الألوان على الأشكال.
لوحات أكواريل، لوحات زيت، تقلب التشوهات إلى جمالات. ترجع التشكيل إلى شروطه الإنسانية والفنية بألعاب تراقب آليات التبادل الضرورية بينها. بدء في موضع، ثم توجه، على موسيقى غير مألوفة، تعيد إدراج المألوف في إيقاعاتها، حيث لا تستطيع نظرة واحدة أن تقيمها. إدراج المعطيات الخاصة بأشكال التمثيلات، تؤكد التمزق والالتئام في عالم إيف كجك. عنده، الفن يحتوي على إمكانيات العالم كلها، على إمكانيات الفنان كلها، على التصورات الكمية والموضوعية، بين نظرات التطهيريين والمتشددين. يرسم كجك وهو في محيط الدم لكي تلتئم جراحه وجراح الآخرين في هذا المحيط الدموي. لا إنشاء، سيولة هي الرابط العضوي، بين الفنان والسياق حيث يعمل، حيث يعيش. هكذا تتظهر اشتراطات الواقع على بعض لوحاته، عنصر تضعيف للوحة. كلما اتجه إلى المباشر، تنحف لوحته بالمر، وتقذف بنفسها في وجوه المشاهدين، كمفردة هاربة من قارة، لا تمتلك غير الفضول حصراً. فضول يقسم الزمن، كما تقسمه ساعة رملية، لا تشدد إلا على قذف الزمن بالرمل كما تفعل اللوحة بالوجه.