قائد عبقري ملهم تولّى القيادة من دون انتخاب، فالتف حوله الشعب. حياته الشخصية وانفعالاته مثالٌ للقيم السامية. يحلم بالسلام من أجل شعبه، لكنه مستعد أيضاً للذهاب إلى الحرب دفاعاً عنه. يخونه بعض الفاسدين من قومه، لكنه ينتصر عليهم، ويقود أمته عبر صحراء قاحلة في رحلة خروج نحو أرض موعودة لم تقع عليها أعينهم قبلاً. قال لهم إنّها تدر لبناً وعسلاً.
هذه ليست من قصص العهد القديم، بل خلاصة الجزء الثالث من آخر إعادة تقديم لملحمة كوكب القردة على السينما من توقيع المخرج الأميركي مات ريفز، وهذه المرّة تحمل عنوان «الحرب من أجل كوكب القردة» (140 دقيقة). في حرب قردته، بدا ريفز كأنّه ابن هوليوود البار، ففيلمه امتداد طبيعي لموجة الأفلام الأميركيّة الجديدة التي تتصاعد فيها القدرة التكنولوجيّة في تصنيع الصورة والسينماتوغرافيا وأداء الممثلين (ووسامتهم) وحتى الموسيقى التصويريّة لتصل حدود الإبهار، في الوقت الذي تتراجع فيه قوة السّرد إلى حدود السذاجة أحياناً. لقد أبدع فريق ريفز الثلاثي: مايكل سيرسين في تقديم سينماتوغرافيا مذهلة سواء في مشاهد الحرب والدّمار القيامي (صورت معظم مشاهدها في السهوب الكندية) أو في عكس الانفعالات (الإنسانيّة) على وجوه القردة، ومايكل جياتشينو بموسيقاه التصويريّة الملحميّة، وبالطبع الممثل أندي سركيس الذي تألق في تقديم شخصية القرد الزعيم بالإفادة من التقنيات الأحدث لتسجيل الحركة.

صور الدّمار بدت نسخة مستلّة
من فيلم «القيامة الآن»


لكن القصة بذاتها انتحال توراتي مكرور، مع تلفيقات سطحيّة من كنية الزعيم (قيصر لأنّه زعيم تعرّض للخيانة كما في المسرحيّة الشكسبيريّة المعروفة)، إلى صور الدّمار التي بدت نسخة مستلّة من مشاهد فيلم «القيامة الآن»، مروراً ببنية مشاهد الحرب التي تجبرنا على تذكّر مقاطع شهيرة من فيلم «بلاتون» عن حرب فيتنام.
ربما كان الأجدى يجدر بريفز وهو يتلو علينا مزاميره أن يطلق على فيلمه شيئاً مثل «كوكب القردة: قصة الخروج» بدلاً من اسم الحرب الخادع. رغم أنه بدأ شريطه من مواجهة حربيّة مع جيش من البشر الفاسدين الذين يريدون أن يستعبدوا شعب القردة بمعاونة قلة من قردة خائنة، إلا أن معظم الفيلم هو صراع داخلي في قلب قيصر (القرد الزعيم) ومتابعة للأحداث التي تجري معه، بينما يقود أمة القردة عبر الأرض المتصحرة (بفعل دمار البشرية التي جلبته على نفسها) نحو الأرض الموعودة، حيث جنّات ستمنح القرود المكان والفضاء لإنشاء مملكتهم اليوتوبيّة وتأسيس نظام عالمي جديد برعاية حكماء أمة القرود.
وللحقيقة، فإن الجزء الثالث من «كوكب القردة» ــــ بعكس ما اعتدناه من هوليوود ـــــ تطور نوعي إيجابي مقارنة بالجزءين الأولين (الجزء الثاني كان من إخراج ريفز أيضاً ــــ 2014)، وهو يستكمل خطوط السرد (المهلهلة) بسلاسة حتى يمكن فعلاً مشاهدة الثلاثة أجزاء معاً كأنها فيلم واحد طويل. إلا أنّ احتمال تقديم جزء رابع من سيرة بني قرد بدا محتماً: فـ «الكوكب» ما زال قادراً على جلب الجمهور إلى الصالات بكثافة، وهناك تلميح في الجزء الثالث لأجواء ديستوبيّة قد تتجه الحياة في الكوكب إليها (البشر يفقدون القدرة على النطق ويتحولون إلى شعوب بدائيّة). كما أنّ قصص التوراة التي يمكن استلهامها لاستكمال السرد عن حياة أمة القرود بعد الزعيم الملهم وتأسيس المملكة، لا نهاية لها.
التوتر الدرامي في الجزء الثاني من «كوكب القردة» كان بدون شك أفضل منه في «الحرب من أجل كوكب القردة». في قصة «فجر كوكب القردة» (Dawn of the Planet Apes)، كان هناك على الأقل صراع واضح بين الخير والشر، وبين الصالحين والفاسدين على نحو جعل الشخصيات جميعها تقريباً مبررة ومستقلة وقادرة على الوقوف على قدميها. أمر لم يوفق فيه ريفز في الجزء الثالث، إذ أن شخصيّة الكولونيل الذي يقود الميليشيا البشريّة ويدير معسكر استعباد للقردة على نسق هولوكوستي (تكاد تكون ذاتها شخصية الكولونيل كورتز في فيلم «القيامة الآن») تتسم بكثير من الشيطانيّة السطحيّة ذات البعد الواحد، رغم الأداء الممتاز للممثل وودي هاريلسون. كما أن شخصية القرد الشرير المعارض للزعيم بدت كاريكاتوريّة مضحكة لا قيمة لها دراميّاً، بينما يدور الصراع الأساسي لـ «الحرب من أجل كوكب القردة» بين النوازع الداخليّة عند الزعيم نفسه. إذ تدفع به الخسارات المتكررة لرفاق قردة مقربين، نحو تطوير مشاعر سوداء لم تعرفها القردة من قبل: الانتقام والشروع بالقتل.
يأخذنا ريفز لتصعيد الصراع إلى تلك المساحة السوداء عبر مزايدات عنفيّة تفتقد إلى القيمة الدراميّة: أشكال داعشيّة متنوعة من الإعدامات بالسلاح من مسافة قريبة، الخنق باليدين، التعليق على الصلبان إلى جانب معسكرات العبوديّة المبالغ بها من دون أي داع درامي فعلي.
إذا نحن نحّينا النفس التوراتي في القصة جانباً، فإنّ ريفز يطرح على المستوى الفلسفي مواقف قد تكون هامة في النقاش العام حول دور التكنولوجيا في الحياة المعاصرة، ومعنى التقدّم، والفساد المحتّم لمن يمسك بمصادر القوّة. لو تم التوسع في هذه الثيمات، لكانت أعطت الفيلم بعضاً من العمق، بدلاً من الاعتماد الزائد على المرويات الدينيّة التي لا جديد فيها.
مهما يكن، فإن ريفز قدّم في «الحرب من أجل كوكب القردة» أفضل نتاجات السينما الأميركيّة حتى الآن في مجموعة الأعمال التي استلهمت رواية الخيال العلمي «كوكب القردة» للفرنسي بيار بول (نشرت 1963). علماً بأنّه عدّها أسوأ ما كتبه من روايات على الإطلاق. ورغم أن الأعمال العديدة السابقة التي قدمتها هوليوود في أوقات متباعدة، كانت أكثر وفاءً للنص الأصلي، فإن ريفز امتلك الثقة لاستعارة الفكرة الأساسيّة من رواية بول، ومن ثم بناء سرديّة متقدمة ومستقلة مكّنته من ضخ دماء جديدة في قصة مستنفدة.
الفيلم مشاهدة إجباريّة لثلاث مجموعات من المشاهدين: الأولى تلك المجموعة التي شاهدت الجزءين الأول والثاني من الثلاثية. وبالتالي، فإن الفيلم سيكون بالنسبة إليها استكمالاً لا بدّ منه للقصة. الثانية تلك المجموعة التي تريد الاستمتاع بالإنجاز البصري والتقني الهائل الذي تأخذنا السينما الأميركيّة فيه من قمة إلى قمة أعلى مع كل فيلم جديد. أما المجموعة الأخيرة، فهي تلك التي تمتلك ساعتين وثلثاً من الوقت ولا تمانع قضاءها في كوكب القردة.
تجاريّاً، فإن الفيلم الذي كلّف إنتاجه حوالى 150 مليون دولار أميركي يبدو متجهاً إلى تحقيق أرباح هائلة قد تتجاوز المليار دولار، لا سيما أنّه جلب في أسبوعه الأول في شباك التذاكر (في صالات العالم) أكثر من 60 مليوناً. أمر خوّله خلع فيلم «الرجل العنكبوت» عن عرش فيلم صيف هذا العام. فيلم كانت صناعة السينما الأميركيّة تبني عليه عادة آمالاً كبيرة. كم أنت مربح يا كوكب القردة!

«الحرب من أجل كوكب القردة»: «سينما سيتي» (أسواق بيروت ــــ 01/995195) ــ «أمبير» (1269) ـــ «غراند سينما» (الأشرفية ــــ 01/209209) ــــــ «سينيمول» (ضبية ــــ 04/444399)