يسهل تصنيف التدمير الذي يقترفه هراير سركيسيان (1973) في فيديو «الحنين إلى المنزل» (2014)، على أنه فعل استباقي، بالمعنى السياسي للدمار الذي يتربص بأبنية سوريا وحيوات سكانها.
كأنه مطالبة بالحق بالتدمير، وبحجز دور للمشاركة فيه قبل أن تطاله يد أخرى. لكن تجربة الفنان والمصوّر السوري مع الصورة المتحرّكة، تبدو أقرب إلى رحلة ذاتية، بينما تقبع الحرب السورية كخلفية غير مرئية للأعمال. بعنوان «الحنين إلى المنزل»، يضيء معرضه في «متحف سرسق» (الأشرفية ــ بيروت) على عمل سركيسيان في الصورة المتحركة، بعد تجربته الطويلة مع الصورة الفوتوغرافية التي دشّنها في استديو والده في الشام، المكان الذي لم يتوقّف عن العودة إليه في مشاريعه اللاحقة.
في فيديوهاته وصوره، لا يكف سركيسيان عن تفحّص الجغرافيات والأمكنة، والسرديات السياسية والشخصية التي تكتنزها، وإحالاتها التاريخية. مجموعته «مربعات الإعدام» (2008) تحوي صوراً لساحات الإعدام الجماعية السورية، في الشام وحلب واللاذقية. التقط سركيسيان الساحات عند الفجر، الوقت الذي تنفّذ فيها عمليات الإعدام المدنية. ما يبدو هادئاً ووادعاً في الصباح الباكر؛ البيوت والمشهد المديني العام وخلوه من أي أثر بشري، سيبدو طبقة أخرى تستحضر آلاف الأجساد والصور المريعة.

يشرع شريطه
على المصائر المبهمة
للاجئين ومستقبلهم الحائر



في Transparencies عام 2012، اتبع طريقاً أكثر مراوغة. صوره النيغاتيف لا تحوي مشاهد دمار، فيما تظهر وجهاً آخر للخراب المديني في الدول العربية. هناك هياكل إسمنتية لأبنية غير مكتملة في الأردن، قطعت عملية بنائها أحداث سياسية واقتصادية. الأمكنة تحضر مجدداً في تجهيز فيديو «الحنين إلى المنزل» الذي نشاهده عبر شاشتين منفصلتين، تحويان مشاهد مكثّفة. يتخلى العمل عن الأحداث السياسية، ليدشّن رحلة ذاتية، تظهّر فعل التدمير المجرّد وحركاته المكرّرة. على إحدى الشاشتين، نرى مجسماً اسمنتياً مؤلفاً من أربع طبقات، يقع فيه منزل عائلة الفنان السوري في الشام التي تركها عام 2008، فيما لا تزال العائلة تقطنه. صنع سركيسيان مجسماً حميمياً مطابقاً للمبنى، بشرفاته والستائر الخارجية والمكيّفات والدرابزين، مستخدماً الباطون والحديد. على شاشة مقابلة، يحمل الفنان مطرقة ويبدأ بالهدم. هنا لا نرى سوى جسد سركيسيان مع المطرقة، التي تدفع حركته وتعيدها طوال مدّة الفيديو. وفيما يستمر سركيسيان في الطرق، يبدأ المنزل على الشاشة الأخرى بالانهيار شيئاً فشيئاً عبر تقنية إيقاف الحركة. يظهر انقسام الشاشتين، وانفصالهما المقصود بوضوح في أماكن كثيرة من العمل، مقاطعاً المتفرّج كما حين يكمل سركيسيان الهدم فيما صار المبنى ركاماً. يتخذ العمل منحى تغريبياً، يذكّرنا بأن ما نراه تمثيل، إعادة اختبار منهك لفعل الهدم. سركيسيان الذي يتوقف في الفيديو ليلتقط أنفاسه، ويمسح عرقه بقميصه، يبدو كما لو أن حركة الطرق فالتة من يديه تماماً. هي التي تجره لا العكس. يستدعي العمل دوافع التدمير الذاتية، وصعوبته في الوقت نفسه، خصوصاً مع العلاقة الحميمية والعاطفية البحت التي تربطه بالمنزل: ذاكرته الأولى وطفولته وأهله.
هكذا تبدو الحركة المكررة كأنها مصوّبة إلى سركيسيان نفسه، في إصراره على اقتلاع ذكرياته الخاصة، والتخلّص من الماضي. مطرقته تطال شيئاً لا نراه، لكننا نرى تأثيراتها على المبنى في الشاشة المقابلة، ما يحيلنا إلى تدمير ما هو غير مرئي وداخلي. وفي وقت صار فيه التدمير فعلاً مستهلكاً، تكفي ضربة واحدة لمحو البيت وسنواته، يمنح سركيسيان هذا الفعل وقعه الأقصى، مظهراً صعوبة هذا الفعل والجهد الذي يتطلبه. في الصالة المقابلة، نشاهد تجهيز فيديو «أفق» (2016)، الذي يتطرق فيه سركيسيان إلى رحلة اللجوء في البحر. من خلال شاشتين، يتتبع الطريق التي يسلكها اللاجئون من الشاطئ التركي الجنوبي الغربي باتجاه الجنوب الشرقي في اليونان. من هنا تدشن أعداد اللاجئين الهائلة حيواتهم الجديدة التي قد تبدأ أو لا تبدأ. هناك شاشتان واحدة على الحائط وأخرى على الأرض، يتخذ فيهما سركيسيان زاوية أفقية في التصوير، وأخرى من منظور مستقلي المراكب. بالرغم من الطريق التي تبدو قصيرة في الصورة البانورامية الأولى من الفيديو، فإن سركيسيان يبطئ الحركة بما يحاكي سرعة القوارب التي تنقل المهاجرين واضعاً المتفرّج في التجربة الموحشة إياها. المياه والجبل في الجهة المقابلة، والسماء التي تسنده، عناصر طبيعية مجرّدة تظهر في الفيديو وسط سكون وترقب عميقين. ينتهي الفيديو من حيث يمكن أن تبدأ رحلة للاجئين، أي لدى الوصول إلى الجزيرة الأخرى التي من ورائها بحر آخر. هكذا يشرع سركيسيان شريطه على المصائر المبهمة للاجئين وعلى مستقبلهم الحائر، محملاً هذا المكان السياحي بسرديات اللاجئين من الناجين والمفقودين.

«الحنين إلى المنزل» لهراير سركيسيان: حتى 2 تشرين الأول (أكتوبر) ــ «متحف سرسق» (الأشرفية ــ بيروت). للاستعلام: 01/202001