في عزّ الفرح، تشق سيول الحزن أخدوداً في القلب، فتهوي حبات الدمع نزولاً على الوجنتين المكتنزتين، أو تسقط سقوطاً حرّاً بفعل «جاذبية» الهواجس. تماماً، كما يمكن ليرقاتِ الحزن أن تتحول إلى فراشات تحلق بفرح. هذه ليست مجرد فرضية فلسفية، بالنسبة إلى «رحالة» التراث الشامي المسموع، سناء موسى. بل هي حتمية التقاء التناقضات الشعورية.
من أين أبدأ؟ تسأل نفسكَ بينما تطل أمسية من نافذة ذاكرتك، كنت قد قضيتها مع الأصدقاء في عكا منذ بضع سنوات، قبل أن ترحل عنها وتترك خلفك كل الأشياء، تلك التي فعلاً يستحيل أن تتركك. يومها كانت سناء حاضرة في صوت إحدى الصديقات، حين كانت الأخيرة تغني «لا تطلعي من بويتك»، إحدى فصول أسطوانة موسى الأولى (إشراق).
تعرف سناء أنها أثرت بجيل فلسطيني كامل. فتية، وشباب، ونساء، ورجال حفظوا الأغاني التراثية التي نقلتها لنا. بالفعل يمكن تذكر تلك الأمسيات، في المقاهي والحانات في فلسطين. أشخاص ليسوا بالضرورة مؤطرين أو محزبين، أو على احتكاك مباشر بالوضع السياسي، هؤلاء كنت تجدهم في المقاهي والحانات يرددون أغانيها. لماذا؟ ربما لأن سناء استطاعت عبر فنها وصوتها وثوبها المُطرز، أن تصنع لنا مخيالاً جميلاً عن وطن لا نعرف كيف كان شكله قبل عقود. وطنٌ برغم أننا نعيش فيه، لكنه لا يشبهنا تماماً، ولا يعكس في تفاصيله اليومية هويتنا الجمعية. فالشوارع أسماؤها عبرية، وعدوك يتنقل في بزته العسكرية، متأبطاً بندقيته... تفاصيل كثيرة هُناك تشعرك في كل لحظة أن الحرب تقف خلف الباب. فأنت لا تعرف سوى أن وطنك في حالة حرب: أرضك تُصادر، وحريتك تُقمع، وأصدقاؤك يرحلون مستشهدين، وهويتك دائماً في مهب عاصفة الأسرلة.
لكن سناء كانت «عنقاءنا»! رماد كثير نفضته عن مرآتنا المهشمة، ومن خلال أغانيها استطعنا أن نرى بعض صورتنا. وقد تكون قد أجابتنا عن سؤال طالما دار في ذهننا: من نحن؟ (على الأقل كفلسطينيين).

حبل التهاليل السُرّي

بالنسبة لها، الحديث عن أسطوانتها الجديدة «هاجس» لا يمكن أن يمر إلا بعد الحديث عن «إشراق». وقد يكون السبب هو الحبل الرابط بينهما: جدتها. فولادة سناء في الجليل الأعلى لم تكن محض مصادفة. قد يكون الفضل «ليدٍ» ما «خفية» شدّت ثوب جدتها المطرز، في ذلك اليوم من أيام الهجير إلى لبنان. جدتها وطفة، التي هُجّرت بالقوة عن وطنها، فامتشقت سيفها «الملفوف بالمحرمة» وشقت به رجوعها إلى أرضها.
وقد يكون الفضل ربما لتلك اللحظة التي اجتاح فيها القلق، والخوف، والشوق، قلب جدتها، فارتجلت «لفّي محرمتك ع السيف لفّيها/ يا امّي الوحيدة اغراظك ظبّيها». فقد أدركت أن خسارة الأرض تعني خسارة كل الأشياء. أدركت ببساطة أنه لو لم تقرر الرجوع في هذه اللحظة، وأن تتحدى في المقابل كل الموت المزروع على الحدود، وتتصدى لطلقات البنادق بصدرها العاري، فإن كل مفاهيم الكرامة والشرف والعزة التي ورثتها، ستفرغ من مضامينها. ولذلك قررت: إما الموت أو العودة!
هذه التفاصيل البسيطة، على تعقيداتها، اعترضت قدراً كان يمكن أن يجعل سناء كأقرانها من الجيل الثاني والثالث للنكبة. كأن تولد في إحدى مخيمات اللجوء الفلسطيني. لكنها ولدت في أرض جدها وجدتها، في قرية جبلية صغيرة، تدعى: دير الأسد. «قُدِّر» لسناء إذاً أن تولد في الأعلى من الجليل، وأن تنشأ في جبال تحتضن بين أشجارها بيوت القرى المُهجرة، وفيها تحلق أرواح اللاجئين، تماماً كما تطوف روح سناء بين المخيمات، وبين معتقلات العدو وزنازينه، وهو ما عكسته في أغنياتها وفنها.
ومن هُنا يمكن فهم «ترحال» سناء في الأغنية التراثية الشامية، فهي لا تنظر إلى فلسطين على أن عام 1948 كان الحظة المفصلية الوحيدة في تاريخها، وإنما أدركت أن شعبها عاش الألم والوجع نفسه مع شعوب الوطن العربي كله، نتيجة ظروف سياسية واحدة، قبل أن تفرق بينهم الحدود الجغرافية المصطنعة.
أمّا السبب الآخر، فهو أن سناء ولدت أساساً في بيت موسيقي، فهي الابنة البكر للفنان علي موسى، الذي تمكن من الموروث الكلاسيكي الشامي، والمصري، والعراقي. أمّا أخوها محمد فهو عازف ومُلحن.
تشرح موسى في حديثها إلى «الأخبار» أن ولعها وتواصلها بالموسيقى يعود إلى يومٍ كانت لا تزال فيه طفلة، استطاعت أن تتعلم من والدها جميع المقامات الموسيقية. ومن هناك بدأ تواصلها مع الغناء الكلاسيكي العربي بشكل عام والتراثي الشعبي الفلسطيني بشكل خاص، حتى أطلقت في عام 2010 عملها الأول «إشراق».
ولهذه الأسطوانة مكانة خاصة بالنسبة إلى سناء، فبينما كان تدرس في الجامعة العبرية في القدس المحتلة، حقل «علم الدماغ»، لتتخصص اليوم في أمراض السرطان، توفي جدها. وفي خلال مراسم العزاء رثته جدتها ببيت عتابا، قائلةً :«زعق طير الحمام وقال هني/ ما غيّر حوالي غير هني». حينها، وبطريقة عفوية أكملت سناء البيت، وردت: «رب البيت يجمعني أنا وهني/ يا جمّاع خيمك بالسما». كان ذلك دون أن تدرك أنه مطبوع في وجدانها وعقلها الباطني منذ زمن.
ففي طفولتها طالما تكورت سناء في حضن جدتها قبل النوم، بينما كانت الأخيرة تهلل لها. وفي هذه اللحظة بالتحديد حين اكتشفت أنها ذاكرتها تحتفظ بالكثير من الأغاني التراثية، قررت أن تبدأ رحلتها في عالم الموسيقى. لتطلق بعد أعوام من ذلك اسم إشراق (الاسترجاع أو الفلاش باك) على عملها الأول.

«الترحال»

رحلة سناء في تاريخ الأغنية التراثية الشامية، ومعانيها، وألحانها، كانت عبارة عن بحث شاق عن الحقيقة! فقد أدركت أن الأغاني التراثية التي يرددها الناس في الأعراس والمناسبات، هي أغانٍ فيها الكثير من الفخر والاعتزاز بالنفس، و«المرجلة»، والأقنعة، مثل : «خيلنا تدوس المنايا/ وإحنا ضوينا العتم» أو «يا ظريف الطول»، وغيرها.
ولذلك راحت موسى تبحث عن قوالب موسيقية أخرى، وخصوصاً تلك التي من خلالها عبّرت النساء بكل حرية وشفافية عن أحاسيسهن، من دون زيفٍ أو خوف من أحد. فطرقت باب «مركز الفن الشعبي» في فلسطين، واستمعت إلى الأرشيف الموسيقي، ثم أخذت تفتش بين القرى الفلسطينية في كل الاتجاهات، عن سيدات في سن الثمانينات لا يزلن يتمتعن بذاكرة قوية.

رحلتها في الأغنية التراثية الشامية كانت بمثابة
بحث شاق عن الحقيقة

ما وجدته موسى من قوالب غنائية في سنوات بحثها، كان بمثابة «كنز». وفي مقدمتها قالب «الشلاعيات» الذي من خلاله غنت النساء الشاميات في وداع رجالهن، وتحديداً في زمن «السفر برلك» أيام الحكم العثماني، والتجند الإجباري. أو تلك القوالب التي غنت فيها النساء عن رجالهن «الفرارية»، أولئك الذي لوحقوا من قبل العسكر والاحتلال وكانوا يزورون بيوتهم في الليالي المظلمة فقط، خوفاً من الإمساك بهم :«يا خيط الصبح يا مفرق الخلان/ يا ريت الصبح لا شقشق ولا بان/ عينه ملانة نوم عينه/ خيط الصبح يا مفرق بيني وبينه». أو تلك الأغاني التي عاتبت فيها النساء ذويها «يا أهل الغريبة طلّوا على غريبتكم/ وإن تعبت الخيل شدولي همتكم». حتى وصلت إلى الأغاني التي استقبلت فيها النساء أزواجهن بعد عودتهم شهداء: «طلت البارودة والسبع ما طل/ يا بوز البارودة من دمه مبتل».
لكن ما فعلته سناء في «إشراق» لم يكن مجرد نقل هذه الأغنيات، وإنما دمجت بين صوتها، وبين أصوات نساء الجيل الأول للنكبة، فقدمت رواية تحافظ على أصالتها، وتخاطب هوية وانتماء الجيل الجديد.

«هواجس»

يسطر العمل الجديد «هاجس» مرحلة جديدة في مسيرة سناء الفنيّة. في هذه الأسطوانة ثماني أغنيات تتشارك في كونها هواجس لا تزال تلاحق صاحبتها منذ أكثر من ست سنوات. وتعترف الفنانة الفلسطينية لـ«الأخبار» بأن «هذه الهواجس التي صبّت في قوالب غنائية مختلفة، محال أن تخرج من عقلها ووجدانها. فهي بمثابة سجن الخروج منه لا يعني التحرر أو الانفكاك التام عنه».
إحدى هذه الهواجس، هي الحرب الدائرة في سوريا. فسناء «تستطيع من خلال دراستها الجامعية العلمية أن تفهم معادلات رياضية وكمية صعبة، وقد تستطيع الوصول إلى نتائج في أبحاثها عن مرض السرطان». لكن في حقلها الفني وحسّها الوطني المرتبط فيه مباشرة «لا تستطيع استيعاب فكرة أن يخطف الموت أطفالاً بعمر الزهور نتيجة حروب الكبار».
غنّت لهؤلاء «يا طارش الدرب لا سلّم ولا كلّم/ يا دمع عيني سبقني وع الحجر علّم»، وهي أغنية من تراث الريف السوري. أما الأغنية التي تلته فكانت «يا رايح ع بلاد الشامّ على مهلك/ ودّي لبردى منّي سلام على مهلك». وهي أغنية ارتجلتها ولحنتها سناء نتيجة صور الدمار والموت الذي يعصف بـ«محبوبتها» الشام، مؤكدة أن «هذه المشاهد الدموية المهولة، واللاجئين الذين صاروا ملايين بفعل الحروب، قد جعلها في صدمة وحزن. وهي صدمة إنسانية بالدرجة الأولى، بعيداً عن كل الاصطفافات السياسية والانتماءات». وكما «أعطت النساء حقهن» في «إشراق»، راحت تبحث هذه المرّة عن قوالب خاصة بالرجال. ولكن أيضاً تلك القوالب التي لا زيف أو رياء فيها، قوالب بعيدة عن «المرجلات». فاختارت «السامر»، لتغنيها مع والدها، علي.
«السامر» هو قالب غنائي اشتهر في جنوب فلسطين المحتلة، وعرف باسم «السحجة» في مناطق الضفة الغربية. وفيه كما تشرح سناء، يقف الرجال في صفين متقابلين يغنيان أغاني ذات مضامين تعبر عن الحِكم والنُصح «وياكَ وياكَ إن عشنا عشنا سوى/ وإن متت متت أنا وياك»، وأيضاً تلك التي تعبر عن الفخر والغزل. في الحديث عن «السامر» (تلحين محمد موسى)، تكشف لنا سناء عن حبها لوالدها الذي تعتبره معلمها الأول. وتقول إنه «في خلال تسجيل الأغنية في الاستديو كنت أغني لحظة وأبكي بمقابلها أخرى... أبكي لأنني متأثرة بوجود والدي بجانبي، عارفةً أن هذا القرب والحضور الجسدي ذات يوم قد ينتهي فيحرم الزمن أحدنا من الآخر... لأن قانون الحياة يسير وفق هذا المبدأ».
للحب أيضاً مساحة محفوظة في الأسطوانة في أغنيتي «أذكُر الُحب» و«طل القمر»، فالحب «هاجس يضيء حياة البشر». وبرغم أن صوت سناء يتميز بكونه مشحوناً بالشجن، استطاعت أن تنقل في هاتين الأغنيتين فرحاً إلى مسامعنا. إذ نجد وصفاً واضحاً من خلال الكلمات لمشاعر متناقضة، بين فرح وحزن، قوة وانكسار. وبالتعبير الأدبي يمكن الاستعانة بـ«السوداء» أو «الملنخُوليَا»، في الإشارة إلى الكلمات التي استُخدمت لوصف التغيرات الوجدانية في حالة الحب. عندما يستذكر المرء مثلاً لحظات فرح وحب لم تعد موجودة فيصاب بالحزن «نتيجة» هذا الفرح السابق نفسه.
لكن ربما الهاجس الأعظم بين هواجس سناء مجتمعة هو العودة! ففي أغنية «عودة النوارس» التي تغني فيها سناء «كل النوارس عادت بعد غربتها/ إلا نوارس قلبي بعد لم تعدِ»، تتحدث مباشرة عن إحساسها بألم اللاجئين الفلسطنيين من أبناء شعبها. ولكنها ولدت ولا تزال في وطنها، ومع ذلك فإن هذا الهاجس لا يزال يلاحقها، وهي نقطة فاصلة لا بد من التوقف عندها والسؤال عنها. الجواب عند سناء نفسها «الخوف. الخوف من أن نُقتلع من جديد من أرضنا التي بقي لنا جزء قليل منها فقط، وأن تسلب جوانب من هويتنا، وثقافتنا... إن الغربة في وطنك أصعب بكثير من غربتك خارجه».