لا ضرورة للمجازفة بتحديد عدد المرات التي زارت فيها سعاد ماسي لبنان لإحياء أمسية فيه. فهذا ليس إحصاءً يتوخى الدقة العلمية. المهم أننا نود الإشارة إلى كثرة الزيارات التي خصّت بها ماسي بيروت ضمن جولاتها منذ عام 2004 عبر «المركز الثقافي الفرنسي» مروراً بالـDRM (جمهورية الموسيقى الديمقراطية) وصولاً إلى «ليبان جاز» الذي تبنى دعوتها في الزيارات الأخيرة، آخرها الموعد الذي تضربه المغنية الجزائرية مع جمهورها اللبناني غداً في «ميوزكهول».
سعاد ماسي تسلّقت درجات سلّم الشهرة العالمية قفزةً واحدة مع صدور ألبومها الأول، راوي (2001) الذي كان بمثابة سيف ذي حدّين لفنانة صاعدة. في الوقت الذي أمّن لها الانتشار السريع، بدا لاحقاً أن رفع التحدّي بتقديم ما يتخطاه أو يوازيه بالحد الأدنى، ليس بالأمر السهل، خاصةً أن النمط الموسيقى/ الغنائي الذي تبنّته يقوم على صوتها ونبرته المميّزة أولاً ثم على اللحن البسيط (القريب من الشعبي المغاربي) والمرافقة الموسيقية المحدودة (فولك غربي مستند إلى الغيتار الكلاسيكي بشكل أساسي). أضف إلى ذلك أنّ مشاركة مارك لافوان (مغني البوب الفرنسي) وإسماعيل لو (أحد الرموز الكبار في الموسيقى السنغالية والأفريقية عموماً) أمّنا دفعاً إضافياً للعمل بطبيعة الحال. هذا ما أوقع ماسي في بعض التكرار في إصداراتها التي تلت «راوي» (Deb، «مسك الليل»…)، على الرغم من تعاونها مع رموز الصف الأول في فئة المنوعات الفرنسية مثل فرنسيس كابريل وفلوران بانيي.
بعدما تراوحت خياراتها لناحية النصوص واللغة بين الفرنسية والانكليزية والمحكي الجزائري والبربري، حصرت سعاد ماسي هذه المسألة في ألبومها الأخير «المتكلّمون» (2015)، باللغة العربية الفصحى وتحديداً بكلاسيكيات الشعر العربي القديم وببعض الحديث لكن الموزون. هكذا اختارت قصائد معظمها شديدة الشهرة واتكلت على موهبتها الخاصة لتلحين هذه الروائع على طريقتها التي لا تتبنّى أبداً المقامات الشرقية الثقيلة (المعتمدة عادةً في تلحين قصائد مماثلة) من جهة، وكما ترتاح، من جهة ثانية، إلى أدائها بصوتها الذي قد لا يصلح كثيراً إلى قالب القصيدة بمعناه التقليدي الأصيل في الغناء العربي القديم.
هكذا أتت النتيجة بين البوب والروك والفولك والشعبي الجزائري واللاتيني والفلامنكو والريغي (نمط لكل أغنية تقريباً)، لكنها نتيجة غير مرضية بصراحة. ثمة ما لا تفسير علمياً له، يجعل من هذا التوجّه الموسيقي (لحناً ومرافقةً موسيقية) غير قابل للالتصاق بالشعر العربي الكلاسيكي. قصائد للمتنبي وزهير بن أبي سلمى وقيس ابن الملوَّح وأبي القاسم الشابي وإيليا أبو ماضي وأحمد مطر أتت «موسيقيّتها» الشعرية/اللغوية غريبة عن الموسيقى التي وضِعَت لها لحناً لتُغَنّى وتوزيعاً لتُزَيَّن. لكن، لا شك في أنه مشروع جريء في زمن النصوص الركيكة الرائجة وابتعاد الذوق العام عن المعاني العميقة في الأغنية الشعبية. إن كنتم مع هذا الرأي أو ضدّه، يمكنكم مناقشة سعاد ماسي، انطلاقاً من تجربتها عموماً، أو ألبومها الأخير خصوصاً، اليوم ضمن جلسة «احكيني موسيقى» التي يستضيفها «دار النمر».