عشرون سنة تقريباً تفصل بين فيلمي زياد دويري «بيروت الغربية» و«قضية رقم 23» (أو الإهانة») الذي يطرح اليوم في الصالات. في «بيروت الغربية» (1998)، يروي دويري جانباً من الحرب الأهلية اللبنانية من خلال مغامرات أبطاله المراهقين. حاز الشريط حينها «جائزة فرنسوا شاليه» في «مهرجان كان السينمائي»، وكان أول أفلامه وشكّل تجربة استثنائية، طبعت ذاكرة المشاهد اللبناني، بالأخص جيل الحرب أو ما بعد الحرب. ذلك الجيل الذي نشأ تقريباً في اللا- مكان على غرار بطل الدويري الذي كان يستكشف في ما تبقى من بيروت، ذاكرة مدينة أخرى، يحاول إعادة تشكيلها في مخيلته.
منذ فيلمه الأول، تتضح مهارة دويري في السرد السينمائي، بموهبة قصاص يجيد إخفاء نفسه أو تدخله في العمل، وهذا ما ميز «ويست بيروت» عن أفلام أخرى تناولت الحرب اللبنانية. استطاع دويري حينها تجاوز الفقاعة الضخمة التي تشكلها الحرب وضبابية الخطاب السياسي، ليقدم فيلماً روائياً بحق. بمعنى أنه لم يقع في فخ مسرحتها أو تلخيصها ضمن إطار روائي. شخصية المراهق أو المراهقة بدت المفضلة لدويري في بداياته، بالزخم والتكثيف الدرامي الذي يتيحه بناء هذه الشخصيات، كالتوق للحرية والاستكشاف، والتباس التجارب الأولى كما في شخصية ليلا في فيلمه «ليلا تقول» (2004)، المراهقة التي تختلق لنفسها شخصية أخرى أكثر إثارة لتهرب من بؤس حياتها.

التفصيل الذي ينطلق منه لبناء فيلمه، وكيفية تطور الأزمة لافتان من حيث الطرافة الذكية


بعدها، انتقل دويري إلى الطرح السياسي، حيث البطل فلسطيني ابتداء من «الصدمة» ومن ثم «قضية رقم 23». «الصدمة» (2012) المقتبس عن رواية الجزائري ياسمينا خضرا الشهيرة، يروي قصة طبيب من فلسطينيي الـ 48 يعيش بتجانس هو و زوجته مع المجتمع الإسرائيلي الذي يقدر إنجازاته، إلى أن يكتشف بعد تفجير يحدث في تل أبيب أن زوجته هي منفذة العملية. ورغم اختلاف هذا الفيلم الجذري عن أعمال دويري السابقة من حيث الحبكة والالتباسات، إلا أنّ المخرج حافظ على أسلوبه في السرد في تصوره لرواية ياسمينا خضرا. رغم أنها مستوحاة من الواقع الفلسطيني، إلا أنّه لا يمكن تحميلها فعلياً ثقل تمثيله. هي توظف عناصر من ذلك الواقع لخلق ما نستطيع تسميته بالتركيبة الروائية الناجحة والجماهيرية. وفي ذلك، ربما التقى المخرج والروائي في الرؤية، وخصوصية المعالجة السينمائية التي اعتمدها دويري تعود إلى جمالية اللغة السينمائية التي تغرق الفيلم في حالة من الميلانكوليا والضبابية، بخاصة اللقطات التي تصور المدينة وطرقاتها أو في هندسة المكان التي تعبّر عن العلاقة المتأزمة مع المكان وأزمة الانتماء التي يعانيها البطل. بخلاف الروائي، يمكن القول إن الخطاب السياسي الذي يتبناه الفيلم لا يخلو من الالتباس. يعود ذلك الالتباس إلى أسلوب المخرج في تصوير تل أبيب، وسياسة الدولة الإسرائيلية عموماً ونزعة الفيلم إلى اتخاذ ما يمكن تسميته بالموقف الروائي- الحيادي في السجال كما يظهر من خلال الحوار والسيناريو. لكن هل يمكن الحكم على عمل حصراً من خلال الخطاب السياسي الذي يتبناه؟ بالطبع لا، كذلك هل يمكن تجاهل تماماً الخطاب السياسي الذي يتبناه العمل؟ أيضاً لا. لكن الحكم على وجهة نظر المخرج يجب أن يتأتى من مشاهدة العمل نفسه. وإذا ما كان يدخل في خانة معينة، فهو الشق المتعلق بمدى مصداقية الطرح، ويعود للمشاهد تقييم ذلك. نعود إلى فيلم «قضية رقم 23». في هذا العمل، يستند دويري إلى نزاع فردي يحدث بين رجلين، أحدهما لاجئ فلسطيني في لبنان (كامل الباشا الذي نال جائزة أفضل ممثل لدوره في الفيلم في «مهرجان البندقية السينمائي») والآخر لبناني من الطائفة المسيحية (عادل كرم). يتطور النزاع ليشغل الرأي العام ويصل إلى المحكمة التي يوظفها دويري، ليقوم بما هو أشبه بمراجعة لسجل الحرب اللبنانية. يضع الفلسطيني في مواجهة «القوتجي»، باحثاً في أحقية كل منهما في تمثيل دور الضحية. التفصيل الذي ينطلق منه لبناء فيلمه، وكيفية تطور الأزمة لافتان من حيث الطرافة الذكية. لكن إحدى مشاكل الفيلم، قد تكون قاعة المحكمة الذي تغرق الشريط في مساحة هي بعيدة عن الجمالية السينمائية التي اعتدناها في سينما دويري. الأمر الآخر الذي يميز سينما دويري، هو العالم الداخلي الذي يتمثل من خلال لغته السينمائية بصرياً. عالم يبنيه لشخصياته، وهو يبدو هنا أقل تبلوراً، إذ يركز على المحاكمة. ورغم بعض اللقطات الذكية في الحوار، إلا أنّ الخطاب السياسي في الفيلم على الأقل ليس نقطة قوته الفعلية. مع ذلك، نرى لمحات جميلة من العالم السينمائي الخاص بدويري، صوب النهاية، في عودة البطل إلى الدامور التي هجر منها طفلاً اثناء الحرب الأهلية، واستلقائه بين بساتين الموز فيما الشمس تلفح جبينه. مشكلة الخطاب السياسي فعلياً تكمن في تبسيطه للأمور أو محدوديته في تناول موضوع الحرب الأهلية اللبنانية. وقد يعود ذلك للخيار الروائي الذي ينطلق منه المخرج لتطوير حبكته، وحصر الصراع والمواجهة بين الفلسطيني والقوتجي. لكن اعتبار أن الصراع بين الاثنين يختصر الحرب اللبنانية، يتناسى أن تلك الأخيرة كانت حرباً أهلية وطائفية في الدرجة الأولى، ولم تكن حصراً بين اللبناني المسيحي والفلسطيني القادم. إن كان للأخير دور فاعل فيها، فهو تظهير الانقسام الحاصل فعلاً بين اللبنانيين أنفسهم. هذا بالإضافة إلى المرافعة الأخيرة في المحكمة التي تتحول فجأة إلى خطاب إنشائي عن ضرورة المسامحة والاعتذار. إحدى النقاط اللافتة أيضاً هي كيفية تمثيل الطبقة السياسية الحاكمة، فسواء سمير جعجع أو رئيس الجمهورية يبدوان للطرافة أقرب إلى صورة غاندي في دعوتهما للتسامح وحل النزاع. ولعلّ موقف المشاهد اللبناني لدى مشاهدة الفيلم، سيختلف عن رؤية الغريب له، فمن الصعب أن يفصل بينه وبين الواقع السياسي الحالي. من جهة التمثيل، يقدّم الممثل الفلسطيني كامل الباشا أداء متيناً، وهو الأكثر عفوية بين الممثلين. أما ما لم يكن متوقعاً، فهو ريتا حايك الذي يبرز أداؤها بين الممثلين.

* «قضية رقم 23»: بدءاً من اليوم في الصالات اللبنانية