باريس | في كتاب مدوٍّ بعنوان «مهرّبو التاريخ» (منشورات فرانز فانون – تيزي وزو – الجزائر)، حمل الروائي الجزائري رشيد بوجدرة (1941)، بعنف على من أسماهم «الكتاب التلفيقيين» الذين يكرّسون أعمالهم الأدبية لـ «تزييف التاريخ الجزائري، من منطلقات نيو- كولونيالية، مدفوعين بـعقدة المستعمَر ومتلازمة احتقار الذات» كما يقول.
«مهربو التاريخ» الذين سعى بوجدرة للتصدي لهم في هذا الكتاب الناري، ليسوا سوى نجوم الإعلام الغربي المدللين: بوعلام صنصال، وياسمينة خضرا، وسليم باشي، وكمال داود. إلى هؤلاء، ضم صاحب «بناء الحقد» (منشورات دونويل – باريس – 1992) كاتبتين أقل شهرة ونجومية. الأولى هي فريال فيرون، حفيدة «الباشاغا» (لقب كان الاستعمار الفرنسي يمنحه لكبار الاقطاعيين المتعاونين معه في الجزائر) بوعزيز بن غانة، التي أصدرت في مطلع السنة الحالية كتاباً في باريس حاولت فيه تلميع تاريخ جدها، واصفةً إياه بآخر ملوك «الزيبان» (منطقة واحات شهيرة على مداخل الصحراء الجزائرية). وانطلت الحيلة على الإعلام الرسمي وعلى وزارة الثقافة الجزائرية، فاستقبلتها الجزائر واحتفت بكتابها. «نسي الجميع أو تناسى أن جدها الباشاغا اشتهر كأحد أكبر جلّادي الاستعمار الفرنسي في الجزائر. وهو مبتكر تقنية التعذيب بعسل النحل» (ممارسة وحشية سبق أن تناولها بوجدرة في روايته «فندق سان جورج» (منشورات غراسيه – باريس - 2011).
الباشاغا بن غانة اشتهر أيضاً بحادثة تعذيبه الوحشي للثائر الشيوعي الجزائري الكبير، شباح المكي، عام 1936، عبر جرّه موثقاً وراء حصانه على مسافة 130 كيلومتراً، لتسليمه للسلطات الاستعمارية. أثارت هذه القضية في حينه جدلاً عالمياً، وصل الى حدّ إصدار طابع بريدي شهير، بمبادرة من منظمة «الغوث الشعبي» اليسارية، حمل صورة شباح المكي موثقاً وراء حصان الباشاغا بن غانة، تحت شعار «ضد الجور والظلم في بلاد الصحراء».

يتصدى لنجوم
الإعلام الغربي: بوعلام صنصال، وياسمينة خضرا، وكمال داود

شخصية أخرى من سليلات أعوان الاستعمار الفرنسي أصدرت كتاباً تلفيقياً لتلميع صورة والدها الذي أعدمته ثورة التحرير الجزائرية بسبب تعاونه مع الاستعمار. إنها وسيلة تامزالي، التي زعمت في كتابها «تربية جزائرية» (منشورات غاليمار – باريس – 2007) أنّ الشهيد العقيد عميروش (أبرز قادة الثورة في منطقة القبائل التي تتحدر منها عائلتها) بعث لها برسالة يطلب فيها الصفح لأن والدها أُعدم بالخطأ، ولم يكن متعاوناً مع الاستعمار! مرة أخرى، يقول بوجدرة، انطلت الحيلة التلفيقية على وسائل الاعلام وعلى السلطات الرسمية الجزائرية، فاحتفت بالكتاب «من دون أن يطالب أحد بالتثبت من وجود هذه الرسالة المزعومة أو صحتها». هذه «الكتب التلفيقية» التي يتم إصدارها في فرنسا، من قبل «شخصيات تتحدر من سلالة جلادي الشعب الجزائري من أعوان الاستعمار السابقين، بهدف إعادة كتابة تاريخ الثورة الجزائرية وتزييف وثائقها وأحداثها» ـــ يقول بوجدرة ــ لم تكن لتتسرب إلى الجزائر لتغالط الرأي العام، لولا وجود كوكبة من المثقفين الجزائريين الجدد، الذين يلعبون دور «مهرّبي التاريخ». ويضيف بأن هؤلاء «يتحدرون من تيار ثقافي نيو – كولونيالي نشأ منذ سنوات الاستقلال الأولى، وتنطبق على أقطابه نظرية فرانز فانون حول «عقدة المستعمَر»، ومقولة ابن خلدون الشهيرة حول «انبهار المنهزم بالمنتصر»، إذ تشوب كتاباتهم نوستالجيا غريبة الى جنة الاستعمار المفقودة!
يرصد صاحب «التطليق» (منشورات دونويل – باريس – 1969) بوادر نشأة هذا التيار التحريفي في الثقافة الجزائرية، منذ رواية «قرية البرواق» لعلي بومهدي (منشورات «الشركة الوطنية للنشر والتوزيع» – الجزائر – 1970)، وفيلم «سنوات التويست المجنونة» (1982) للمخرج محمود زموري. عملان يعتبر بوجدرة أنهما أسّسا لـ «نزعة ثقافية نيوكولونيالة وغير وطنية». نزعة فرّخت لاحقاً نجوم «الثقافة الجزائرية الجديدة»، مع مطلع الألفية الحالية.
من هنا ينطلق بوجدرة في مرافعة مدوية ضد عدد من أقرانه الكتّاب، من بوعلام صنصال الى كمال داود، مروراً بياسمينة خضرا. يعيب بوجدرة على صنصال أنّه زعم في روايته «قرية الألماني» (منشورات غاليمار – 2008) بأن بعض قادة الثورة الجزائرية كانوا من قدامى الضباط النازيين، «مما جعل منه الولد المدلل لبرنار هنري ليفي والأوساط الصهيونية الفرنسية، التي صارت تروّج لكتاباته. وانتهى به الأمر الى زيارة اسرائيل ولعب دور المهرج أمام جدار المبكى».
أما كمال داود، فيقول بوجدرة إنّه صنع شهرته في فرنسا بالطريقة ذاتها، عبر «مغازلة الأوساط الصهيونية، بقوله إنه غير ملزم بالتعاطف مع القضية الفلسطينية، وإنّ ما يحدث في غزة لا يعنيه». ويتهم بوجدرة كمال داود بأنه «انضم في شبابه إلى الجماعة الإسلامية المسلحة» واغتنم الذكرى المئوية لولادة ألبير كامو لتملق الاستبلشمنت الفرنسي برواية «ميرسو، تحقيق مضاد» (منشورات أكت سود – باريس – 2014) تحتفي بـ «الانتماء الجزائري المزعوم لكامو، في حين أنّ هذا الأخير، كما تبيّنه مراسلاته مع جان سيناك ورينيه شار، لم يكن يعترف بوجود شيء اسمه الجزائر».
أما ياسمينة خضرا، فقد أبدى بوجدرة بعض المرونة في انتقاده، قائلاً إنّه «كان في السابق كاتباً جيداً، وألّف لنا روايات بوليسية رفيعة المستوى»! لكنه يعيب عليه «انسياقه الى كتابة رواية تلفيقية لا تليق بكاتب موهوب مثله» («ما يدين به النهار لليل» – منشورات جوليان – باريس – 2008)، تمجد التعايش والأخوة المزعومين بين المعمرين الفرنسيين ومسلمي الجزائر، كما كان يطلق آنذاك على الأهالي العرب والبربر، مضيفاً بأنه لم يكن مفاجئاً اقتباس تلك الرواية سينمائياً في فيلم من اخراج سينمائي (ألكسندر أركادي) صهيوني الهوى من أنصار «الجزائر الفرنسية».