لندن | في ما بدا كأنه أوضح تعبير عن عمق الأزمة التي تعيشها هوليوود سواء على الصعيد السياسي أو حتى في حصيلة الأعمال المنتجة بما خص شباك التذاكر، تعرّض فيلم جورج كلوني Suburbicon (104 د) إلى أفتر استقبال حظي به فيلم سينمائي أميركي خلال السنوات الثلاثين الأخيرة من قبل السوق الأميركيّة.
بالكاد حقق الفيلم الذي يلعب دور البطولة فيه الأميركي مات ديمون مليون دولار يوم الافتتاح (الجمعة)، ولن يمكّنه بأي حال تجاوز حاجز الثلاثة ملايين دولار خلال أول أسبوع له، رغم عرضه عبر أكثر من 2000 صالة في أنحاء الولايات المتحدة. تزامن الإطلاق أيضاً مع حملة العلاقات العامة المبالغ بها والاستعراضات الباهظة في مهرجانات مثل «البندقية» و«تورنتو» قبل أن يتبين للجميع مدى تعاسة العمل الذي أقدم عليه كلوني سواء على صعيد النّص أو الإخراج. كلوني الذي كان قد أخرج أربعة أفلام قبل Suburbicon كل واحد منها كان أسوأ بقليل مما سبقه، ليكون هذا الفيلم الأخير عن الحياة المثاليّة شكليّاً في ضاحية أميركيّة بمثابة أضعف أعماله على الإطلاق، مما دفع بعض النّقاد للحديث عن نهاية مهنيّة مذلّة للنجم الوسيم الذي طالما أجبرتنا هوليوود ووسائل الإعلام على التعامل معه – ولاحقاً مع زوجته الثانية – كمشاهير. هذا الفشل المدوّي في شباك التذاكر ترافق مع اتفاق نادر شبه كامل بين النقاد والمشاهدين على تقييماتهم السلبيّة للفيلم لينتهي على مواقع التصويت على الأفلام في مستوى النجمة الواحدة ودائماً دون مستوى النجمتين. وقد وصفته إحدى الصحف «كأنه مشروع تخرج لتلميذ في مدرسة للدراما لا أكثر»، ووسمته أخرى بكونه «سخيفاً» و«غير مضحكٍ وغير ذكيٍ أبداً» و«قد حان الوقت للتوقف عن الإعجاب بكلوني». بفيلمه الباهت هذا، أغرق كلوني معه سمعة فريق عمله، خصوصاً مات ديمون. إذ أن نتيجة شباك التذاكر الأميركي عُدّت بدورها أسوأ نتيجة حققها الممثل المعروف في حياته المهنيّة المديدة كلّها.

بحث في أدراج الأخوين
جويل وإيثان كوهين عن
سيناريو مهمل لهما منذ عقود

العارفون بأجواء هوليوود يتحدثون عن عوامل عديدة تظافرت ضد مشروع كلوني، أوّلها أن فيلم الرّعب المأخوذ عن رواية ستيفن كينغ المعروفة IT ما زال يحصد أرقاماً ممتازة في شباك التذاكر ليتجاوز حاجز الـ 350 مليون دولار لحظة إطلاق Suburbicon، من دون وجود إشارات إلى تباطؤ إقبال الجمهور عليه، خاصة في أجواء الاحتفال الشعبي بأعياد الرعب والموتى في الغرب. كذلك، فإن أجواء «صدمة وينستين» التي ما زالت في الأجواء لم تساعد أيضاً، وتظاهر كلوني وديمون بأنهما متفاجئان من سلوك صديقهما الحميم وشريكهما الذي كان له الفضل في إطلاقهما سينمائياً هارفي وينستين لم ينطل على أحد، لا سيما بعد تصريحات متناقضة من ديمون حول المسألة، وهو ما يلمس بكثافة غير مسبوقة على مواقع التواصل الاجتماعي وفي غرف الدردشة والنقّاش العام. مع ذلك، فالمناخ السلبي تجاه شخصي كلوني وديمون لم يكن إلا سوء حظ ترافق مع سوء توقيت، لكن مأساة Suburbicon تتجاوز بالتأكيد مسألة المصادفات لتأخذنا إلى حقيقة تردي المستوى الفنّي والتقني والفكري للفيلم، إلى درجة أن مهنة كلوني ذاتها وموهبته المزعومة – أقله على صعيد كتابة السيناريو والإخراج - صارت الآن موضع تساؤل الجميع تقريباً.
فكرة الفيلم ولدت كمحاولة من كلوني للعب دور المعلّق السياسي على مرحلة ترامب وسياساته الانعزاليّة في بناء الأسوار وتقييد الهجرة واضطهاد الأقليّات. لذلك بحث في أدراج الأخوين جويل وإيثان كوين عن سيناريو مهمل لهما منذ عقود - كانا رشحا كلوني وقتها لتمثيل إحدى الشخصيات فيه - لكنه لم ير النور أبداً. ثم أقحم كلوني على النص قصة موازية مأخوذة من وقائع حقيقيّة في خمسينيات القرن الماضي عن انتقال الزوجين الأسودين ويليم ودايزي مايرز للعيش في أحد الأحياء البيضاء في ليفيتاون (بنسيلفانيا) وتعرض العائلة لاضطهاد السكان المحليين ولقلاقل أمنيّة.
كلوني الذي لم يخف يوماً مواقفه السياسيّة المنطلقة من طموح سلطوي موروث عن والده الذي فشل في دخول الكونغرس، والمتكئة على الهالة الإعلاميّة الفارغة التي وفرتها له هوليوود، كثيراً ما اعتبر نفسه سلطة أخلاقيّة تتخذ المواقف وتوجه الجماهير: من مساعدة ضحايا 11 سبتمبر، إلى إعصار كاترينا، مروراً بدارفور، وانتهاء باستهداف النظام السوري قانونياً بالتعاون مع زوجته، ودعم منظمة «الخوذ البيضاء» المرتبطة بالتنظيمات الإرهابيّة، وكذلك حشد الدعم لمشاريع تدّعي الحرص على تعليم أبناء اللاجئين السوريين في لبنان. وفي فترة صعوده كممثل، انخرط بشكل كثيف في أعمال سينمائيّة معروفة بتورط المخابرات المركزيّة الأميركيّة في إنتاجها والترويج لها «سيريانا» (2006) و«آرغوس» (2012) وغيرهما. في هذا الفيلم، يواصل كلوني إلقاء الدروس الأخلاقيّة المتعجرفة من دون أي معالجة ذات مضمون لموضوعته المختارة عن العنصريّة والعرق. أما القصّة الحقيقيّة التي أقحمت على نص الأخوين كوين، فلم تقّدم أي قيمة دراميّة تذكر لسياق الأحداث المفكك أصلاً ليكون الفيلم منفصماً بين خطيّن لا تقاطع حقيقي بينهما. هناك أيضاً ضياع عجيب لفرصة استكشاف انعكاسات الأحداث المؤسفة على حياة وانفعالات الأسرة السوداء المستهدفة في اعتداءات الجيران البيض نتيجة تركيز كلوني التام على تفاصيل ما يدور في منزل الجيران المجاور تماماً كما هي معالجات هوليوود التقليدية عند تقديم شخصيات من غير ذوي البشرة البيضاء.

النقاط المضيئة القليلة
اقتصرت على أداء جوليان مور لدور الأختين روز ومارغريت

لا يمكن تصنيف فيلم كلوني هذا تحت أي من الأنواع الدرامية. لا هو كوميديا ولا تراجيديا، ولا هو سياسة أو سايكولوجيا، وليس حتى خلطة مفهومة من كل هذه. وتقصر مشاهد العنف والجنس فيه عن أن ترقى بأي حال لتصير رافعة للسرد الدرامي. الحوار ليس ممتعاً، والشخصيات هزيلة وذات بعد واحد مسطّح بما فيها الشخصيّة الرئيسيّة التي يلعبها ديمون وتفشل في تقديم نموذج واقعي للأميركي الأبيض العادي الذي يعيش في أجواء ضواحي طبقة أميركا الوسطى فترة ما بعد الحرب العالميّة الثانية. كما أن تعاقب الأحداث يفتقد إلى التشويق أو أي ربط وثيق بين خطي السرد المفترضين، ولا تبدو الموسيقى التصويريّة أو اختيارات الاكسسورات والألوان أفضل حالاً من السيناريو الضعيف رغم أن فترة الخمسينيات تمتاز بأجواء شديدة التميّز والاحتفاليّة ضمن مرحلة الحلم الأميركي ما بعد الحرب العالميّة. النقاط المضيئة القليلة في كل هذا المنتج اقتصرت على أداء جوليان مور لدور الأختين روز زوجة غاردنر لودج (ديمون)، ومارغريت التي تتآمر معه للتخلص من زوجته والتحايل على شركة تأمين لقبض التعويض. كذلك، برع الطفل الموهوب نوح جوب في لعب دور ابن غاردنر الصغير نيكي لكن الشخصيات التي لعباها لم تمنحهما مساحة حقيقة لإظهار قدراتهما الفذّة. ربما كان يجدر بالأخوين كوين تقديم فيلمهما بناء على حبكة الجريمة والعنف فحسب، من دون السماح لكلوني بإضافة حبكته الموازية عن العائلة السوداء، أو الأفضل من ذلك كله إرسال السيناريو إلى مثواه الأخير لتجنب الإساءة لأعمالهما اللاحقة المشابهة، حيث تمتزج الجريمة بالكوميديا (مسلسل «فارغو» مثلاً). لكن الأكيد أنّ الجمهور الأميركي لم يعد مقتنعاً بكلوني المخرج، ولم يعد يشتري فقاعات هوليوود الفارغة. لقد شبّ شباك التذاكر الأميركي عن الطّوق!

Suburbicon: «غراند سينما» (01/209109)، «أمبير» (1269)، «سينما سيتي» (01/995195)، «فوكس» (01/285582)