ولد عبد المحسن القطان (1929 ــ 2017) لعائلة متواضعة من يافا في 5 تشرين الثاني (نوفمبر) 1929. أبوه حسن القطان تاجر حمضيات، أمه أسماء خضر المولودة في اللد لأبوين مصريين، استقرا في فلسطين هرباً من حملات العبودية التي أنشأها الاستعمار الفرنسي لحفر قناة السويس في مصر. حسن الذي كانت الأرض والبرتقال والتجارة كل عالمه؛ لم يكن يعرف القراءة والكتابة، لكن التعليم كان من أولويات العائلة التي تعيش في عالم مضطرب إبان الحرب العالمية الثانية.
تاجر البرتقال اليافاوي سيأخذ بيد طفله عبد المحسن إلى «المدرسة الأيوبية» في يافا. سينهي الطفل مرحلته الدراسية الأولى، ويصبح شاباً يافعاً لينتقل إلى القدس لمتابعة دراسته في «الكلية العربية» التي كان يديرها آنذاك المفكر والمربي الفلسطيني خليل السكاكيني الذي سيترك بالغ الأثر فيه. سيتشكل وعيه هناك في القدس التي كانت تحتضن وقتها حراكاً سياسياً وفكرياً نشطاً مقارنة بباقي المدن الفلسطينية، وسيرحل والده في يافا قبل أن يترك الفتى القدس قبل النكبة بعام واحد متجهاً إلى «الجامعة الأميركية» في بيروت.
في نيسان (أبريل) 1948 أثناء تواجد القطان في بيروت، احتلت الميليشيات الصهيونية يافا، لتشهد المدينة عمليات القتل والنهب والتشريد. سيحاول الفتى العودة إلى فلسطين لمعرفة مصير عائلته. سيصل يافا ليجد أنه خسر كل شيء، منزل الطفولة، بيارات البرتقال التي كانت تملكها العائلة، والمدينة بأكملها. أما أمه أسماء خضر التي لم يجدها، فتمكنت من الهرب إلى مدينة اللد، سيلحقها إلى اللد، ويكتشف عند وصوله أنها هُجرت كما عشرات الآلاف وقتها إلى الأردن. سينتقل إلى الأردن وهناك سيلتم شمل العائلة المعدمة والمفجوعة بخسارة حياتها. تلك الخسارة ستشكل منعطفاً في حياة القطان الذي كان بدأ بدراسة العلوم السياسية في «الجامعة الأميركية» قبل أن يتحول إلى دراسة إدارة الأعمال، أملاً في إيجاد وظيفة لتحسين أوضاع العائلة.
في بيروت، انخرط بأعمال الشأن العام والأعمال التطوعية. ميزة بدأت معه في مرحلة مبكرة من مشوار حياته الذي اتسم بالعطاء. كثيراً ما صرح بأن «العطاء» هو أقصى ما يستمتع به، بل كان يعتبره واجباً وفرضاً. عند تخرجه من «الجامعة الأميركية» في بيروت، عاد إلى الأردن وعمل في مهنة التدريس لبضع سنوات. في عام 1954، كانت الكويت في طريق استقلالها وبدأت بإنشاء مؤسساتها، حالها كحال كل دول الخليج التي كانت بحاجة إلى الكفاءات والمتعلمين من دول المشرق لبناء البلاد. حصل القطان وقتها على عرض مغر في دائرة الكهرباء والماء الكويتية، لينتقل إلى الكويت التي كوّن فيها علاقات جيدة مع بعض أفراد الأسرة الحاكمة. عمل في الوظيفة عشر سنوات، ليتمكن بعدها من تأسيس شركة إنشاء وعقارات ويبدأ بجمع ثروته التي ستمكنه من تحقيق واجبه كما كان يعتبره والمتمثل في دعم الفلسطينيين أفراداً ومؤسسات.

سخّر ثروته لخدمة التعليم والثقافة بوصفها لبنة أساسية في مشروع التحرر

إلى جانب العمل في الشأن العام الذي بدأه القطان مبكراً، كان نشطاً في العمل السياسي الفلسطيني. هو ممن أسسوا ودعموا «منظمة التحرير الفلسطينية» كان مقرّباً من أحمد الشقيري أول رئيس للمنظمة. في عام 1968، تم انتخابه على رأس «المجلس الوطني الفلسطيني» ووضع مع لجنة المجلس «الميثاق الوطني الفلسطيني». لكنه سرعان ما اختلف مع أعضاء المجلس الوطني المسيطر عليه من قبل العسكر الذين أصروا على التحكم بالمال والسلاح من دون الفصل بينهما، ما دفع القطان إلى الاستقالة وقتها، وهو الذي كان لديه وعي مبكر بالمنظومة السليمة لبناء المؤسسات. كان ضد عسكرة المؤسسات والفوضى الإدارية والاستئثار بالسلطة والقرار من قبل بعض الأفراد في «منظمة التحرير». وبالرغم من علاقته الجيدة نسبياً مع ياسر عرفات، إلا أنه كثيراً ما تصادم مع توجهاته وقراراته التي يعرف عدم صواب الكثير منها. كان يعتبر عرفات بارعاً في التكتيك لا في صياغة الاستراتيجيات. في 1990، استقال من منصبه كعضو في «المجلس الوطني الفلسطيني» احتجاجاً على اصطفاف منظمة التحرير مع صدام حسين عند اجتياح الكويت. وتبعه وقتها عدد من أعضاء المجلس من بينهم ادوارد سعيد. ظل القطان من أشد المعارضين لـ «اتفاق أوسلو»، واصفاً إياه بأنه «اتفاق مهين يفرط بالحقوق الفلسطينية». اتخذ مسافة من السياسة الرسمية، محافظاً على نقده للنخب السياسية، وحتى تلك الثقافية التي كانت هي وإنتاجها على علاقة حميمة بالسلطة؛ واضعاً جل اهتمامه في العمل بالشأن العام، ومسخراً ثروته لخدمة التعليم والثقافة والتربية في فلسطين. تلك العناصر لطالما اعتبرها لبنة أساسية في مشروع التحرر والنهوض الوطني.
أسهم في دعم «الجامعة الأميركية» في بيروت وكان عضو مجلس أمناء فيها، وساند «مؤسسة الدراسات الفلسطينية»، وكان داعماً للعديد من المراكز الثقافية والبحثية والمؤسسات التعليمية وتلك المهتمة بالعمل المجتمعي منها مؤسسة «التعاون» و«جامعة بيرزيت». في عام 1993، أعلن القطان من لندن عن إطلاق مؤسسة ثقافية تربوية تحمل اسمه. ولا نعلم في الحقيقة إن كان إطلاق المؤسسة قد تصادف فعلاً مع العام نفسه الذي وقعت فيه «اتفاقية أوسلو» أم أنها كانت بمثابة رد من طرفه على اتفاقية مجحفة بحق الإنسان والأرض معاً. بدأت «مؤسسة عبد المحسن القطان» عملها في فلسطين المحتلة بداية عام 1998. انتفع من هذه المؤسسة المتواضعة في حجمها وفريقها، مئات إن لم نقل الآلاف من الشباب والأطفال. عاد إلى فلسطين بعدها بعام، ولم يعد كتاجر أو مستثمر أو منتفع كما صرح أكثر من مرة وكما عرفه الناس، بل عاد ليعطي ويبني خلافاً لعشرات بل ربما مئات الأثرياء الفلسطينيين الذين فضلوا مواصلة تضخيم ثرواتهم بشتى الطرق وإن كانت على حساب شعب بأكمله. وقبل رحيله المفجع بسنوات، تخلى عن ربع ثروته في سبيل ضمان استمرارية المؤسسة، وشرع في بناء مبنى ضخم يحتضن المؤسسة وطموحها ومستقبلها، وللأسف لم يقدر له أن يشهد افتتاحه. في الوقت الذي كان فيه القطان يلفظ أنفاسه الأخيرة، كان سيد البيت الأبيض يحضر نفسه ليعلن القدس المحتلة عاصمة للكيان الصهيوني، بينما في الوطن المحتل كانت المجموعة نفسها ما زالت تفرك رأسها، وتفكر بكيفية الرد الأكثر دبلوماسية، وتواصل مسلسل إضاعة الحق الفلسطيني. هذا الحق الذي لن يعود إلا بأولئك الذين عرفوا كيف يمكن للخسارة أن تتحول إلى ربح. وبالمناسبة هذه قاعدة لا تنطبق على «البزنس فقط»!