لطالما شكّلَ مصطفى سعيد، الشخصية الروائية التي ابتدعها الطيب صالح في روايته الشهيرة «موسم الهجرة إلى الشمال»، رمزاً للإنسان العربي في عصرنا الراهن، «المريض» جرّاء تنازع بنيته النفسية - الثقافية بين أصوله العربية التقليدية المحافظة «المتخلّفة»، وتماسّه المباشر مع غرب متحرِّر و«متحضّر». أو على الأقلّ، هكذا نظر إليها الخطاب الثقافي السائد، الغربي والعربي. ويُفضي هذا التنازع بالشخصية إلى التهلكة أو إلى مآل مأساوي (كوننا لا نعرف ماذا يجري لها فعلياً في نهاية الرواية).
وممّا لا شكّ فيه أنّ هذه الرواية لم تترك فقط أثرها في الأدب العربي الحديث، بل طبعت، بتناولها لهذه الشخصية- «الرمز»، وعي الإنسان العربي في زمننا المعاصر.
ومن الأرجح أنّ انفصام مصطفى سعيد المرضي، كما ونهايته المأساوية، مرتبطان ارتباطاً وثيقاً بالصورة الدونية المهشَّمة التي بناها العرب عن أنفسهم، والتي لا يمكن إلا أن تكوِّنَ ذاتاً مضعضعةً غيرَ مستقرّة، ومائلة صوب العنف (1). وإن كانت هذه الصورة ناجمة، في حيّزٍ منها، عن تاريخٍ غابَ عنه أيُّ دورٍ عربيٍّ فاعلٍ منذ قرون، فشعرَ معه العرب بأنهم خارج التاريخ، فإنّها في نظري، من حيث هي بناءٌ فكريّ وخطاب ثقافي- حضاريّ، ليست كلياً من تركيب فكرنا، بل هي في كثير من جوانبها إنتاجٌ فكريّ غربيّ استشراقيّ فوقيّ. فللغربِ دوافعه السياسية التاريخية، التي تُتَرجَم فكرياً إيديولوجياً ثقافياً، في إبقاء مثل هذه الصورة المهشّمَة مهيمنة على عقولنا العربية المشرقية. ذلك أنّ الغرب الأوروبي بالتحديد، والفرنسي بشكل أخصّ، قد شعرَ دوماً بالتهديد، بحكم التاريخ والجغرافيا، من نشوء قوّة عربية أو مشرقية مختلفة عنه وموّحدة فيما بينها. والتاريخ مليء بالأدلّة على قمع هذا الغرب لكلّ محاولات بناء هكذا قوة، كونه لا يريد بالتأكيد لشعوب هذه المنطقة أن تعود وتشكّل تلك القوة الحضارية التي تهدّده مباشرة في كلّ شيء (2). ولقد وصل الأمر بهذه الهيمنة الاستشراقية على العقول حدّ تبنّي هذه الصورة الدونية عن الذات من قِبل بعض المفكّرين والمثقّفين العرب، بل والدفاع عن تاريخيّتها وجوهرها الثقافي(3).
لكن هل يمكننا أن نتحرّر من انفصام مصطفى سعيد، أي من هذه الازدواجية المرضية التي قيل لنا إنّها تتنازعنا: الغرب «المتحضّر» والشرق «المتخلّف»؟ من هذين الخيارين اللذين وضعنا أنفسنا، أو اللذين وُضعنا بينهما؟ لا شكّ بأننا، على الأقلّ في جانب من جوانب تاريخنا الحديث، في طور إعادة بناء صورةٍ إيجابيةٍ بنّاءةٍ عن أنفسنا وعن تاريخنا. وهذا تطلّبَ ويتطلّبُ إعادة قراءة، أي إعادة تأويل لهذا التاريخ. وربما للراهن نفسه.

إعادة قراءة تاريخ الصراع

قد يكون مثال حرب تموز ٢٠٠٦ مفيداً في إعادة التأويل هذه: إذ ثمّة من رأى في هذه الحرب وفي نتائجها مجرّد تدمير للبنان وقتل لشعبه. وهذا صحيح: صحيح أنّ هذه الحرب أدّت إلى قتل ودمار هائليْن. لكن ثمّة من رأى في هذه الحرب، وإلى جانب آثارها المأساوية على شعبنا وبلدنا، صموداً تاريخياً بوجه عدوّ تاريخي. فقرأ هذا الصمود على أنّه انتصار كبير يبني على ما سبقَه، ويؤسّسُ لمراحل جديدة في الصراع. وفي خطاب النصر، عبّر السيد نصر الله عن هذا التباين - بل التناقض - في قراءة نتائج الحرب، بعبارة ملفتة دفعتني لاحقاً إلى التفكير مليّاً بما تحمله من تداعيات: إنّ من يشعر بالهزيمة فهو منهزم، وإنّ من يشعر بالنصر فهو منتصر.
لقد أرجع السيد نصر الله قراءة الواقع أو الحدث التاريخي إلى ما يشعر به الإنسان اللبناني أو العربي. أذكر أنني فكّرت يومها: كيف يحيل السيّد نصر الله مسألةً بحجم حرب مدمِّرة، على ما يشعر به هذا أو ذاك من الناس؟ فسّرت الأمر حينها على أنّه توضيح، بل تأكيد على انقسام المجتمع اللبناني حول أسباب هذه الحرب ونتائجها.
لكنني ما لبثت أن استنتجت أنّه من غير المنطقيّ أن يُرجع السيّد نصر الله موضوعاً بهذه الأهمية إلى مجرّد استنساب أو اختلاف بين شعوريْن. وأنّه لا بدّ أنّه يحيل على مسألة أعمق بكثير. ومع الوقت فهمت أنّ هذه العبارة، إنما تحيلُ على وعي الإنسان العربي لذاته ولتاريخه، وأنّها تحيل بخاصة على صورة هذا الإنسان العربي لنفسه ولواقعه ولتاريخه. فلطالما قرأ كثيرون الاجتياح الإسرائيلي عام ١٩٨٢ على أنّه هزيمة وكارثة، فيما قرأه السيّد على أنّه بداية مسار تاريخي من المقاومة وتحقيق التحرير تلو الآخر. وها هو ينظر إلى حرب ٢٠٠٦ على أنّها نقطة محورية في هذا المسار. السيّد لا يتحدّث إذن عن الشعور الاستنسابي أو عن الانقسام، بقدر ما يتحدّث عن الصورة التي كوّناها ونكوّنها عن أنفسنا: فهل هذه الصورة هي صورة المنهزم، تاريخياً وراهناً؟ أم هي صورة المنتصر ليس فقط راهناً، بل تاريخياً؟ أي هل نضع أنفسنا كعرب وكلبنانيين في مسارٍ تاريخي منهزم، أم في مسار تاريخي مقاوم منتصر؟
دفعتني هذه القراءة إلى إعادة زيارة تاريخنا الحديث، خاصة مع العدو الإسرائيلي. وهو تاريخ تعوّدتُ أن أرى فيه، كما غالبية العرب، تاريخَ خيبات وانهزامات. ذلك أنّ «نكسة» ٦٧ ومن ثمّ اتّفاق كامب دايفيد الذي أخرج مصر من دورها التاريخي المحوريّ في القضايا العربية، أنتجا شعوراً مريراً بالانكسار والعجز لدى جيل عربي بأكمله، ولقد عبّر هذا الجيل في ممارساته وفي إنتاجاته الثقافية، عن كلّ مفاعيل هذه الخيبة وهذه الهزيمة.

للغربِ دوافعه في إبقاء
صورة العربي المهشّمَة مهيمنة على عقولنا


أعدتُ قراءة تاريخنا منذ ما بعد الحرب العالمية الأولى. وتبيّن لي، وأقولها سريعاً هنا، أنّه يمكننا أن نستنتج أنّ إسرائيل ومن يدعمها، قد سيطرت، خلال مئة عام، على كلّ فلسطين وهزمت المشروع العربي بالتحرير. لكن يمكننا أيضاً أن نقرأ نفس هذا التاريخ على أنّه تاريخ مقاومة متواصلة. فالشعب الفلسطيني بالتحديد، تسانده عملياً ومعنوياً كثير إن لم يكن كلّ الشعوب العربية، لم يكفّ يوماً عن الانتفاض ضدّ المحتلّ: ثورة ١٩٢٠، ثورة ١٩٣٦، حرب ١٩٤٨، المقاومة المسلّحة في منتصف الستينيات، المقاومة من لبنان (ولنا ملاحظات على هذه الفترة) حتّى ١٩٨٢، الانتفاضة الشعبية عام ١٩٨٧، انتفاضة الأقصى عام ٢٠٠٠ ، مقاومة مستمرة منذ ذلك حين (مع كل الملاحظات التي يمكن أن نبديها)(4). وها نحن الآن أمام احتمال حقيقي لانطلاق انتفاضة ثالثة، قد تتميّز هذه المرة بقيام محور مقاوم عريض بدعمها بكل الوسائل.
إذا ما اكتفينا فقط بقراءة هذه التواريخ، استنتجنا أنّ الشعب الفلسطيني قام بانتفاضات وثورات ومقاومات شبه مستمرّة منذ مئة عام. ومن يقرأ تاريخ الشعوب، يرى أنّ هذه حالة استثنائية ونادرة، وليست عامّة ومنتشرة. إنّ الشعب الفلسطيني بشكل خاص، والشعب العربي بشكل عام، لم يكفّا عن التصدّي للمشروع الاحتلالي الاستعماري بشتّى الوسائل منذ مئة سنة. وهذا بحدّ ذاته إنجاز كبير وكبير جداً: لأنه يدلّ على أنّ هذا الشعب لم يخضع يوماً للواقع المفروض عليه. وحتّى لو لم يحقّق الفلسطينيون والعرب بعد ما يطمحون إليه، فإنّ مسارهم المقاوم هذا ليس فقط دليلاً على حيويّتهم وعدم خضوعهم، إنما هو مدعاة للاعتزاز والأمل في تاريخنا الحديث. وبالنظر لشعوب وتجارب أخرى لم تطوّر مقاومةً ذات فاعلية ضد المستعمِر، أو باءت محاولاتها بالفشل، فإنّ تجربتنا التاريخية المقاوِمة لإسرائيل وللغرب الداعم لها، هي تجربة مشرقة ومشرِّفة في كثير من جوانبها. وهي لم تنتهِ البتّة، بل ربما على العكس تماماً.
لكنّ هذه القراءة لتاريخنا على أنّه تاريخ مقاوم حيوي إيجابي، ليست هي القراءة السائدة في عالمنا العربي، وليست هي الصورة التي تتحكّم بوعينا لتاريخنا ولأنفسنا. إنّ الصورة المتحكّمة بعقولنا وبوعينا هي صورة العربي المهزوم الفاشل الضعيف أمام جبروت إسرائيل وداعميها من القوى العظمى. وأنا لا أدّعي أنّه لا توجد مبرّرات واقعية وتاريخية لهذا الشعور بالضعف والهزيمة.
فلقد انطبع وعيي كطفلة مثلاً، بمشهد الطائرة الحربية الإسرائيلية التي كانت تغير على مخيّمات عين الحلوة والمية مية. كنا نعرف أنّ الغارات لن تستهدف حيّنا، لذا كنا نخرج على الشرفة لنتفرّج على طائرات الأف ١٥ و١٦. أذكر أنّ الطائرة كانت تغير على علوٍّ منخفضٍ جداً. كنا نرى بوضوح الصواريخ التي كانت تحملها في أسفلها. كنت أراها أنا وكأنها بطنٌ منتفخٌ محمّلٌ ناراً ودماراً، أو كأنها مخالب مفتوحة انقضاضاً على فريسة أشبه بالأرنب الصغير الذي لا يستطيع إلا أن يهرع ليختبئ في وكره، أو يعلق في قبضة النسر العملاق. كنت أرى كذلك بوضوح مقصورة القيادة حيث يجلس الطيّار، وملؤه الثقة والقوّة. أذكر تماماً رهبتي وأنا أرى هذا الطائر الحديدي ينخفض براحة تامة في سماء مدينتي. أذكر شعوري بالضعف والعجز أمام هذا الجبروت الآليّ الحربي. كنت أعرف أن ليس لدينا، لمواجهة هذا الوحش، سوى بنادق ورشاشات، من الواضح أنها لا تخيفه في شيء ولا تثنيه عن شيء. وكبرت هذه الطفلة ووعيها مطبوع بطائر حديدي عملاق يفعل ما يشاء في سماء مدينتها وطفولتها. وفي بداية اجتياح ٨٢، شعرت هذه الطفلة بعجزٍ وبذلٍّ لم تشعر بهما من قبل. فهذا الإسرائيلي نفسه وصل مدينتها وقصفها ودمّرها وقتل ناسها، ثمّ دخلها خلال أيام ثلاثة فقط. ثم ما لبث أن وصل عاصمة بلدها وقصفها وحاصرها ودمّرها. ثم دخلها. وكان هذا الجندي الإسرائيلي الداخل رمزاً للقوّة ومدعاةً للخوف. ولم تكن هذه الطفلة تعرف حينها أنّ الجندي الإسرائيلي كان يشعر بخوفٍ يفوقُ بكثير خوفها منه(5)...
لكن اليوم، لم تعد هذه الطفلة تخاف من أيٍّ من الأشياء التي كانت تخاف منها: فلا الطيران الحربي الإسرائيلي يخيفها، ولا الجندي ولا دباباته ولا بوارجه. كذلك، فإنّ هذه الطفلة التي صارت أمّاً، تندهش اليوم عندما ترى كيف تحوّلت نظرة الأطفال، الذين هم اليوم في نفس عمر تلك الطفلة، إلى «إسرائيل» وجيشها: فهؤلاء ينظرون إلى «إسرائيل» نظرة قوّة لا ضعف، نظرة ثقة لا خوف. صار الجندي الإسرائيلي عندهم مرادفاً للجبن، لا للجبروت. وصار الجيش الإسرائيلي مرادفاً لقوّة تدميرية نعم، لكن لقوّة ستدمَّر بالمقابل، إن تجرّأت ودمّرت.

تجربتنا المقاوِمة لإسرائيل وللغرب، هي تجربة مشرقة ومشرِّفة وفريدة

خلال ثلاثين عاماً تقريباً، تحوّل الوعي: من طفلة عاجزة خائفة، إلى أطفال واثقين أقوياء. ترى، ماذا جرى خلال ثلاثين عاماً أو أكثر، لكي يحدث هذا التحوّل الجذريّ في الوعي، وعينا لأنفسنا ووعينا للآخر؟ لقد قلب هذا التحوّل صورتنا عن أنفسنا وعن الآخر: لم تعد صورتنا عن ذاتنا هي صورة الإنسان الضعيف العاجز المنهزم، بل صارت صورة الإنسان القوي الفاعل المنتصر والمقاوم. فبدا الآخر بالمقابل وفي بعض جوانبه مهزوماً وضعيفاً، أو على الأقلّ ندّاً في القوة.
يعتقد الكثيرون أنّ هذا التحوّل التاريخي جرى فقط على المستوى العسكري، فيما لا زالت شعوبنا متخلّفة وخاضعة اقتصادياً وعلمياً وثقافياً. ومنهم من يلجأ إلى إعطاء أمثلة اليابان وكوريا وكلّ «نمور آسيا» للتدليل على أنّه بالإمكان التطوّر والتقدّم والتحضّر اقتصادياً وثقافياً دون الحروب والدم والدمار. يمكن الإجابة على هذا المنطق بالقول: أولاً، إنّ كلّ البلدان التي أُخضعت بعد الحرب العالمية الثانية للمعسكر الغربي قد تمّت الهيمنة على سيادتها السياسية والاقتصادية، كما وعلى مواردها، من خلال قواعد عسكرية متمركزة في كل أرجائها. وسُمح لها أن تنمو اقتصادياً فتساهم في السوق العالمي الرأسمالي، شرط أن تظلّ خاضعة(6). بهذا المعنى، فإنّ هذا النموّ هو في بعد من أبعاده وجه السيادة المسلوبة والخضوع السياسي. ثانياً، إنّ هذه البلدان لا تقع في منطقة مثل منطقتنا، حيث لهذا الغرب مصالح حيوية نعرفها كلنا، من النفط إلى «إسرائيل». ثالثاً وأساساً: إنّ معظم بلداننا، وخاصة شعوبنا، وعلى الرغم من كلّ الحروب و«التخلّف»، لم تخضع بعد لمشيئة المشروع الذي أراده الإسرائيلي والغرب الداعم له، لمنطقتنا. والحال بيننا سجال وصراع وحروب منذ مئة عام. ندافع فيها عن مصالحنا ولا نرضخ لكلّ مصالح الآخرين. ولهذا ثمن بالتأكيد.
وقد يكون ما يسمّى «تخلّفنا» هو في الحقيقة ثمن مقاومتنا للهيمنة، وثمن تعلّقنا بقضايانا وبمصالحنا وبتاريخنا. بل أكثر من ذلك: إنّ ما يسمّى «تخلّفاً» هو، وفي كثير من جوانبه، ليس فقط الثمن الذي يدفّعنا إياه هذا الغرب المستعمِر مقابل عدم رضوخنا له، بل هو الخطاب والبنيان الفكري الثقافي الذي بناه الغرب عنا، فبنيناه عن أنفسنا تأثّراً وتبعية. ويُراد لنا من خلاله أن نستمرّ بالشعور بالهزيمة وبالضعف وبالفشل، فنعدل عن مقاومتنا ومواجهتنا. بهذا المعنى، فإنّ تحرّرنا من هذا الفكر ومن هذه التبعية، من خلال إعادة قراءة تاريخنا بوعي المقاوم والمواجه والصامد والمنتصر، هو الذي يحرّرنا من صورة التخلّف التي احتلّت وعينا لأنفسنا.
بهذا المعنى، نعم: ثمّة كثيرون كثيرون يشعرون بالنصر، وهم منتصرون. ولا يسع هؤلاء إلا أن يدعوا من يشعر بالهزيمة لإعادة قراءة التاريخ والراهن، وتحرير العقل والفكر، للانضمام إلى كتابة تاريخ جديد مشرّف، وإلى بلورة وعي للذات وصورة عن الذات مشرقة. وهذا عمل لا يقتصر على فئة أو جهة بعينها، بل هو مهمّة كلّ الناس: بها نخرج ليس فقط من الهيمنة، بل أيضاً من «التخلّف».
إنّ تحرير العقل يؤدّي إلى هذه القراءة الإيجابية للتاريخ. إنّ هذه القراءة الإيجابية للتاريخ تؤدّي إلى تحرير العقل. هذه هي الديناميكية التي تنسف ازدواجية الغرب-الشرق المريضة وتبعاتها الانهزامية على بنيتنا النفسية. وهذه هي الديناميكية الحيّة التاريخية التي تستطيع، بل التي بدأت تحلّ محلّ انفصام مصطفى سعيد.

هوامش

1 # هكذا، في «موسم الهجرة إلى الشمال»، يقتل مصطفى زوجته. أما في الواقع، فيلجأ شبابٌ مسلم وعربيّ إلى قتل الغير في تعبير مماثل عن تأزّم بنية نفسية مريضة، تتوهّم أنّ خلاصها وترسيخ هويتها ودورها التاريخي هو في العودة إلى قراءة سلفية متشددة لإرثها الديني، فتخدم بوعي أو بدون وعي، المشروع الإسرائيلي-الغربي في بناء صورتنا «المتخلّفة» عن ذاتنا.
2 # لا ننسى أنّ العرب وصلوا إلى أوروبا ودخلوها ومكثوا فيها لقرون، مساهمين بشكل أساسي في نهضتها التاريخية في القرن الرابع عشر والخامس عشر (بداياتها كانت في البندقية). وهي مساهمة ما زال الغرب ينكر أهميتها بالكامل (لماذا يا ترى؟)، إذ أنّ الخطاب السائد هو أنّ النهضة الأوروبية الحديثة قامت على إعادة زيارة الإرث اليوناني-الروماني وتحديثه. وهذا صحيح. لكن من المستغرب إنكار دور الحضارة العربية، خاصة في شقّها الأندلسي، في النهضة العلمية والثقافية والحضارية الأوروبية، وفي علاقتها مع الإرث اليوناني بالتحديد، إذ أنّ العرب قاموا بترجمة هذا الإرث والعمل عليه وتطويره في كل المجالات، مما عاد بالفوائد المباشرة على هذه النهضة. فمن لا يعرف مثلاً أنّ كلّ الطلاب الأوروبيين في القرون الوسطى كانوا يأتون إلى الأندلس لنيل علومهم؟!
3 # أذكر تماماً كيف أنني صُدمت حين قال لي أحد كبار الشعراء العرب، وأنا بعد طالبة جامعية، ما معناه أنّه من المستحيل أن يتحرّر العرب من التخلّف وأن يدخلوا الحداثة، ذلك أنّ تاريخهم هو تاريخ دموي مبنيّ على القتل، وفكرهم الديني هو في جوهره مناف لتحرّر العقل.
4# أنظر موقع «الموسوعة الفلسطينية» ( encyclopedia palestina).
5 # في الفيلم الإسرائيلي «الرقص مع بشير» (Waltz with Bashir، ٢٠٠٨)، يبدو الجندي الإسرائيلي في اجتياح ٨٢ خائفاً من أي شيء يتحرّك في مدى نظره، من الكلاب إلى السيارة التي تقلّ عائلة بأكملها، إلى الولد في البستان.. ويقول الراوي في الفيلم: كنا فقط نطلق النار على كل شيء دون أن نعرف على ماذا كنا نطلق النار. وفي الفيلم الإسرائيلي Beaufort (قلعة الشقيف، ٢٠٠٧)، الذي يصوّر جنوداً إسرائيليين عالقين ومحاصرين في القلعة قبل التحرير، يبدو عدد من الجنود في حالة انهيار نفسي جرّاء الخوف. كما أننا لا ننسى ما سمعناه بأنفسنا في بيروت، حين صار الجيش الإسرائيلي، ومن خلال مكبرات الصوت، يطلب من الناس عدم إطلاق النار عليه، بعدما بدأت المقاومة ومن ثم دفعته للخروج من بيروت.
6 # هل رأينا مثلاً اليابان تتّخذ ولو لمرّة واحدة منذ ذلك الحين، قراراً سياسياً عالمياً مختلفاً عن القرار الأميركي؟ نرى في المقابل أنّ الصين، ومع كلّ سلبيات نظامها وتاريخها الحديث، قد حافظت على سيادتها فيما يتعلّق بالقرار السياسي وبالدور العالمي
* باحثة ومترجمة لبنانية