الموت «قريب من هون»، بحسب عنوان مسرحية روي ديب (كتابة وإخراج) التي تعرض عند الثامنة والنصف من مساء اليوم والغد في «مسرح المدينة» (الحمرا ــ بيروت). بعدما أنجز الفنان اللبناني أعمال فيديو وسينما، آخرها «بيت البحر» (منعته الرقابة اللبنانية من العرض)، يقدم عرضه المسرحي الأول الذي افتتح أخيراً ضمن فعاليات «بينالي الشارقة».
في «قريب من هون» دعوة إلى توقيف الزمن، لإطلاق مرثية أو وداع. إذا كان الموت قدراً، فلنسلم به... لكن فلنعطَ استراحة. فليؤخد نفس بين جثة وأخرى، وبين موت وآخر، أو فاصل عزائي كاد يفقد معناه مع تكرار الموت. تراجيديته المعاصرة ستحتفظ بهذه اللحظة وتجمّدها. ثلاث نساء (جوليا قصار، ساندي شمعون، لينا سحّاب) ونصّ بالفصحى والمحكية اللبنانية، وأغنيات من التراث العربي. نص يسائل الحرب ككائن دائم الحضور، ويحيي الحزن على الموتى، بلغة بسيطة وقريبة، تستعير من التراجيديا الإغريقية ملامحها، ومن الأحداث العربية مناخاتها، بالإضافة إلى إحالات للنصوص الدينية المشرقية المسيحية.
تدور الأحداث في مدينة مجهولة وزمن يصلح لأوقات كثيرة. وبهذا يجد العنوان سهولة في التقاطع مع أي مدينة أخرى. أم يوسف (جوليا قصّار) تجلس على الأرض. المرأة والأم والزوجة تحكي مونولوجاً طويلاً مع ابنها يوسف الذي لا نراه طوال العرض. إنه في غرفته، يستعدّ للالتحاق بالحرب، أي حرب. حرب مستمرة من زمان.
كلما جرّدها النص من تفاصيلها وحيثياتها وهويتها، يصير حضورها طاغياً وذا قدرة أكبر على التسلل بين أزمنة مختلفة، ستصلها باللحظة التي نشاهد فيها المسرحية. وإذ يعفي ديب مسرحيته من قالبين زمني ومكاني صارمين، رغم الإحالة الواضحة إلى المنطقة العربية، والموت المعاصر الذي ما هو إلا امتداد لتاريخ مثقل بالحروب والدم، فإنه يختار لحظة فردية ليطيلها ويكثّفها على الخشبة. من مكانها، حيث تخيط الأقمشة، تواجه أم يوسف مصير ابنها المحتم بعدما واجهت قبله المصير نفسه لزوج لا تعرف إن كان يعيش في مكان ما أو قتل في الحرب. الحرب إذاً، هذا المصير الذي يسلب المدينة أبناءها واحداً تلو الآخر. لا يبقى لأم يوسف إلا التمسّك بحق واحد: أن تقيم طقوس العزاء لابنها قبل رحيله. قد لا تتمكن من دفنه لاحقاً. فعل استباقي هو خيار أساسي لوداع الموتى، والسبيل الوحيد للمواجهة والتحدّي. اقتطاع فعل العزاء أو الحزن من سياقه التسلسلي في عملية الموت، يحيلنا إلى حتمية الموت وقربه، فيما يترك مساحة للتأمل بالحزن كحالة قائمة بذاتها. في طرحه المسرحي يبتعد ديب منذ البداية عن أسباب ودوافع الالتحاق بالحرب. يركّز على من يتلقون هذه الخسارات دائماً. يصوّر المونولوج علاقة أم يوسف بابنها. علاقة متناقضة ومتقلّبة. تلومه تارة وتهرب منه ثم تدعوه إليها، تزعل منه وتزعل عليه، وتستعيد ذكرياتها معه. يعتمد العمل على النص والممثل، ضمن خمسة مشاهد تحاكي حالات الحزن النفسية بعد خسارة قريب (إنكار، غضب، مساومة، اكتئاب وقبول). لكنه لا يسلّم تماماً بهذا الشقاء.

أقوى المشاهد هو حين تتوجّه أم يوسف للحديث مع القناص الرابض مقابل بيتها


يأتينا صوت مذيعة الراديو (لينا سحاب) التي تجلس على زاوية المسرح بخفة تقطع، عن قصد، هذا السيل من الحزن في مشاهد البطلة. حديث المذيعة يوفق بين ما هو واقعي وما هو غرائبي، ويمنح العمل طابعاً ساخراً (رغم قساوة الأخبار نفسها). تنهمر الأخبار الدموية باندفاع وتفاؤل صباحي جاهز: «تم العثور على بعض الأشلاء المرميّة عند حواف الشوارع، الرجاء ممن فقد أشلاءه التوجّه إلى أقرب نقطة للتعرّف عليها. فيما تعمل السلطات على تأمين فحص الدي إن آي مجاناً».
هناك توظيف لكليشيهات أخبار الفنانات العالميات ومواقفهن السياسية الإنسانية، ولبعض النصائح والأبراج. «صحيح انو اليوم جديد، بس هوي للصراحة متل أي يوم تاني». بهذه العبثية يحاكي سيل الأخبار العنيفة وعاديتها كما تطالعنا كل يوم. طوال العرض تواصل الأقمشة التي تخيطها أم يوسف ارتفاعها من الخلف. للعنصر السينوغرافي الوحيد على المسرح دلالات كثيرة. استوحاها ديب من الصور التي انتشرت في مدينة حلب، وفيها خاط الناس ستائر الشرفات، ووصلوها بين البيوت، لمنع القناص من الرؤية. لا إحالة واضحة إلى حلب أو الحرب السورية. الحرب واحدة في كل مكان والقناص حاضر أيضاً. هو الذي قتل سهى (ساندي شمعون) ابنة أم يوسف قبل سنوات. شمعون التي تؤدي دور الابنة والمغنية، نراها في مشهد واحد تستعيد ماضيها ولحظة قنصها وموتها، لتكمل بعدها الحضور طوال العرض عبر الغناء (يا غزالي، آه يلا لالي، ربيتك صغيرون...) الذي يكثف من الميلانكوليا والإحساس بالفقد. يقول ديب إن اللجوء إلى الغناء، بما فيه من تعبير يومي في العالم العربي، استمده من حضور الكورس في التراجيديا الإغريقية. لعل أقوى المشاهد هو حين تتوجّه أم يوسف للحديث مع القناص الرابض مقابل بيتها في مشهدين. يتجاوز حكي أم يوسف ويفوق شخص القناص نفسه، ليطال ما هو أكبر: المصير نفسه أو المسؤول عن المصائر ربما، فيما يجد طريقه إلى المتفرّج الذي يجلس قبالتها. «إذا إنت هونيك لأنو أنا هون». تواجه المرأة عقبة أخرى تتمثّل باللجوء إلى القناص كي يشهد على مراسم العزاء، بما أنه الشخص الوحيد الذي بقي في المدينة معها. تتنقل قصار في أداء لافت من حالة إلى حالة، ومن مزاج إلى آخر. يحوي المونولوج كل هذه التقلبات بين سخرية وتهكّم ولوم وتمرّد واستسلام، في لحظات معيّنة. أما حزن أم يوسف الذي ما انفك يتراكم، فسيجعلها تلتحق بصورة أكبر للأنثى التي تتلقى الخسارات، لنساء التراجيديا الإغريقية من بينيلوبي وميديا وأخريات. نقلة قد تكون حادة بعض الشيء في المشهدين الآخرين، حين تقدّم مونولوجاً بالفصحى لا يخلو من خطابية معينة قللت من طابعه الشفوي: «أنا هي التي حملت ابنها إلى الموت قبل أن يموت....». موت ستعلنه الستائر التي ترتفع من الارض لتحجب الرؤية، ولتتحوّل إلى جدار رابع كان يفصلنا طوال العرض عن المسرحية.

«قريب من هون» لروي ديب: 20:30 مساء اليوم وغداً ــــ «مسرح المدينة» (الحمرا ــ بيروت). للاستعلام: 01/753010.