لم تكن مصادفة ولادة قناة «العربي» التي تندرج ضمن شبكة «التلفزيون العربي» في ذكرى الثورة المصرية في «25 يناير» الماضي. كانت الأجندة واضحة: محاربة ومناهضة النظام المصري الحالي، ولو رفعت شعارات فضفاضة من وحي الحراك العربي الشعبي في الميادين المختلفة، كالحريات وحقوق الإنسان وإسقاط الديكتاتوريات مقابل اعطاء صوت للمواطن العربي.
القناة التي انطلقت قبل ستة أشهر، عملت على استقطاب كوادر صحافية لها اسمها وخبرتها في مؤسسات عريقة كـ bbc و»فرانس 24» و»دوتشي فيلي» الألمانية الناطقة بالعربية وغيرها. أتى هؤلاء، تاركين وظائفهم ليعملوا كما وعدوا في مؤسسة «مستقلة موضوعية لا تخضع لإملاءات سياسية». لكن عشية عيد الفطر، فصلت إدارة المحطة 6 صحافيين من بينهم 3 مدراء تحرير من قسمي الأون لاين والأخبار وغيرهما. هؤلاء موصوفون بالكفاءة والمهنية العالية من جنسيات عربية مختلفة: يمنية (1)، لبنانية (1)، جزائرية (1)، سورية (1) ومصرية (2). هكذا من دون إنذار، بُلِّغ هؤلاء بالفصل، والحجة كما ادعّت الإدارة أنهم لا يتبعون النظام الإداري في تسجيل حضورهم وانصرافهم إلكترونياً (علماً أن 95 % من الموظفين لا يخضعون لهذا النظام). وهذا الأمر بالطبع مثير للسخرية، لا سيما أنّ «الأخبار» علمت أنّ أحد الصحافيين علم بصرفه عبر البريد الإلكتروني، وكان في مهمة خارج لندن، وسبب الصرف أنّه لم يسجّل حضوره!
في حقيقة الأمر، يمكن وصف ما يحدث داخل القناة الممولّة قطرياً، بأن القصة «ليست قصة رماّنة بل قلوب مليّانة». تبدأ الحكاية كما يسردها لنا مصدر من داخل المحطة بعيد انطلاق «العربي» في كانون الثاني (يناير). يومها، بدأت تتضح «الأجندة الخفية» ــ كما وصفها هذا المصدر ــ بالعمل على خلاف ما وُعد به طاقم المحطة بالتمتع بجزء من الحرية والاستقلالية (على الرغم من التمويل القطري)، والانفصال الكلّي عن مشروع صحيفة «العربي الجديد» الورقية والإلكترونية.

صرف 6 صحافيين من
بينهم 3 مدراء تحرير بعد تذمّرهم من سياسة القناة
هكذا اكتملت ملامح «الخديعة» كما يقول المصدر، بعدما أُتخم الموظفون بالخطابات الثورية من الرئيس التنفيذي الإخونجي اسلام لطفي الذي ركز على نبذ الديكتاتوريات في العالم العربي لا سيما في سوريا ومصر، لأنها تملك «أبواقها الإعلامية» كما قال، فيما «العربي» يريد أن يكون صوت شعوبهم. طبعاً هذه الكليشهات سرعان ما سقطت مع التركيز حصراً على معاداة النظامين المصري والسوري، فتحوّلت القناة من منوعة الى سياسية انتقامية من نظام السيسي.
يروي المصدر عينه، كيف تمت تورية الهوية الحقيقة للقناة، بدءاً من الابتعاد عن إسباغ كادر الموظفين بجنسية واحدة أي المصرية. لذا عمل على أن يكون طاقمها منوعاً عربياً. لكن ما نفع ذلك إن كانت الإدارة مصرية ذات توجه إخواني صرف وهي صاحبة كلمة الفصل في كل شيء؟ والأنكى أنها لا تتمتع بخبرة إعلامية تخوّلها قيادة سفينة قناة «العربي» التي أريد لها أن تنافس كبريات المحطات الفضائية العريقة وادُّعي أنها ستمنح منبراً حراً لا مثيل له في كل الفضاء العربي.
مع هذه الإدارة الهجينة إن صح وصفها وقرارتها «المتخبطة» و»المسيسة» التي لا تتمتع بحسّ المهنة وحسن التخاطب مع الآخر المختلف، بدأت المشاكل تتراكم بين المصروفين المذكورين، والمسؤولين في الإدارة الذين لم يحترموا قواعد المهنة. إذ حوّل هؤلاء المسؤولون حساباتهم الافتراضية الى مساحة للسباب والتجريح بالأنظمة العربية لا سيما المصري وفق ما يقول المصدر. كان لسان حال هؤلاء المصروفين الذين خبروا العمل في مؤسسات صحافية عريقة: «كيف نعمل في مؤسسة ورأسها دائم الشتم للسيسي وللأسد؟». لم يتخيلوا أنهم قد يصلون الى هذا الحدّ من مستوى التعاطي. هذا الاعتراض قوبل بالسخرية كما علمنا، وبسلسلة شجارات متتالية ترجمت فصلاً من عملهم.
هذا الفصل التعسفي والمهين ظهر بين طياته ما يمكن أن نطلق عليه الفضيحة في التلاعب في العقود الموقعة بين الموظفين والإدارة. من ضمن ما قيل إنّ الإدارة أعطت عقوداً ذات شروط مجحفة ووقّع عليها معظم الموظفين. وسرعان ما بدّلت بعقود جديدة تزيد شروطها المجحفة وتتضمن أقل حد من الحقوق المكتسبة لأي عامل من ضمنها حق الفصل من دون مسوغات. وهذا بالطبع أمر مخالف لكل القوانين والأعراف البريطانية، وقد رفض جميع الموظفين من دون استثناء التوقيع على هذه العقود. عملية الفصل انعكست ذعراً وقلقاً على باقي الموظفين داخل القناة الموضوعين حالياً بين خيارين مرّين: إما المغادرة مع عدم توافر البديل والشعور بالندم على ترك مؤسساتهم العريقة، وإما البقاء داخلها، وهذا الأمر أيضاً مكلف خاصة مع صعود تهديد مارسه لطفي بعيد صرفه للموظفين الستّة بأنه ستكون هناك «قائمة ثانية وثالثة» إن لم يمتثل الموظفون لسياسة القناة.
في المحصلّة، تعيش القناة القطرية تخبطاً على الصعيدين التحريري والإداري. هي محطة لم تتثبت هويتها بعد، فهل هي منوعة وتنافس قنوات mbc مثلاً، أم هي إخبارية سياسية تنافس «الجزيرة» و»العربية»؟ عدا ذلك، فإنّ هناك تفاوتاً كبيراً في الرواتب يصل الى حد خرافي لمدير الأخبار مثلاً، مقابل صحافي ذي خبرة واسعة في وكالة «رويترز» مثلاً لا يصل معاشه الى ربع ما يتقاضاه هذا المدير (وكلنا يدرك كلفة الحياة في لندن حيث مقرّ القناة). ويضاف إلى كل ذلك الإسراف الجنوني الذي أهدر أموالاً لا تعدّ ولا تحصى بسبب قلة التدبير. ما ذكرناه يحيلنا على انطباع واضح وحاسم بأن ما ادّعته المحطة من فتح منبرها للشعوب العربية المقموعة واتخام المشاهدين بقيم «الربيع العربي» كلها شعارات فارغة، مع ممارسة سلطوية مجحفة ذات توجه سياسي واحد يمارس الديكتاتورية. والحلّ كما يقترح المصدر إما الإقفال النهائي، أو تغيير رأس الهرم والحاشية من حوله.