ظلت مدينة سطيف من أجمل المدن وأشدها انفتاحاً في منطقة الشرق الجزائري، اشتهرت بعمقها التاريخي الضارب في الارث الشيعي الاسماعيلي أيام الدولة الفاطمية، وفي ذاكرة الزخم الثوري التحرري حيث كانت مهد الانتفاضة الاولى الثورية في 8 مايو 1945 ضد الكولونيالية الفرنسية، وكانت الكلفة باهظة (قدرت بـ 45 الف قتيل). لكنها اشتهرت أيضاً بنوع غنائها الشهير في منطقة المغرب الكبير الذي يغني الحب والحياة والمغامرة والانفتاح على مباهج الحياة العصرية الجديدة وبأسماء كتاب مشاهير خطوا أسماءهم في الذاكرة الجزائرية من أمثال الروائي الجزائري كاتب ياسين (1929-1989)، والقاص رابح بلعمري (1946-1995)، والكاتب المناضل اليساري عبد الحميد بن زين (1926-2003). لكن في صبيحة 18 كانون الاول (ديسمبر) الحالي، حدث شيء لم يكن في الحسبان، لم يهز عاصمة الهضاب العليا فحسب، بل أحدث أيضاً زلزالاً في أوساط الرأي العام الجزائري نتج عنه سجال وجدال غير مسبوقين في الساحة الثقافية وساحة الاتصال الاجتماعي.

جاء ذلك بعد قيام شخص أربعيني يدعى عباس، ذو ميول سلفية بتشويه صدر ووجه تمثال في وسط مدينة سطيف يتجاوز عمره المئة سنة، بدعوى أنّ هذا التمثال صنم يتعارض مع تعاليم الاسلام. وجرى الحادث في وضح النهار وأمام الملأ، وفي تحدٍّ صارخ لكل أهل البلدة الذين صار التمثال جزءاً من ذاكرتهم التاريخية والجمالية.
تعود قصة إقامة تمثال عذراء سطيف الى نهاية القرن التاسع عشر، وبالضبط الى عام 1898 عندما طلب الحاكم العسكري لسطيف لدى زيارته لمتحف اللوفر، من الفنان الفرنسي فرنسيس دو سانت فيدال أن يهدي عمله الفني الذي أخذ بلبه الى بلدية سطيف. وكان ذلك باستعانة وتدخل من مدير مدرسة الفنون الجميلة في بباريس. أخذ التمثال طريقه الطويل من باريس الى ميناء سكيكدة الجزائرية فإلى سطيف، لينصب في قلب المدينة بالقرب من نبع ماء شهير، ويرتبط من يومها في المخيال المحلي رمز الماء (العين الفوارة) بالجسد. جسد امرأة جميلة شبه قديسة عارية، هي أشبه في صمتها ونظراتها المثيرة الملغزة إلى موناليزا دا فنشي. وتقول الاسطورة الشعبية إن التمثال مستلهم من فرنسية أصيلة سطيف، كان تأثيرها عميقاً على مسار وحياة الفنان النحات فرنسيس دو سانت فيدال، وتحول لدى نساء مدينة سطيف الى مصدر روحي تستمد منه نساء المنطقة الرغبة في الخصوبة والإنجاب.
ومنذ ذلك الوقت، اكتسى التمثال بعداً روحياً وجمالياً وبات متعايشاً في توافق جميل مع رواد المسجد العتيق الذي لا يبعد عنه أكثر من مئتي متر. لم يتعرض التمثال الى أي اعتداء طيلة الفترة الاستعمارية التي تخللها الكثير من الانتفاضات ضد الحكم الاستعماري مروراً بأيام انتفاضة مايو، وحرب التحرير الجزائرية التي استغرقت حوالى سبع سنوات. وكانت المحاولة الاولى المسجلة ضد تمثال عذراء سطيف في عام 1997 عندما قامت جماعة جهادية سلفية تنتمي الى الجماعة الاسلامية المسلحة بتفجير التمثال بدعوى كونه معلماً من معالم الشرك. لكن سرعان ما قام أهل المدينة ونخبتها الفنية بإعادة ترميم التمثال كرد على رفضهم للهمجية الجهادية التي أطالت في تلك الفترة رموز الثقافة الوطنية ملامح الفن الانساني.
وفي 2003 بعدما انخرطت الجزائر في عملية المصالحة الوطنية التي جاءت كمحاولة لتدشين حقبة ما بعد الارهاب، وجّه داعية محافظة عبر قناة جزائرية خاصة دعوة إلى إزالة تمثال عذراء سطيف كشكل من أشكال ازالة المنكر المتبقي من الفترة الاستعمارية أو العمل على تحجيبه! ومنذ أشهر، واصل الحملة أحد أئمة عاصمة الشرق الجزائري قسنطينة، مطالباً بإزالة التمثال وفي الوقت ذاته قام بتحريم الشرب من نبع عذراء سطيف! لتستيقظ سطيف في هذا الشهر على هذه «الغزوة» الذي نفذها شخص يقطن ضواحي سطيف سرعان ما سارعت بعض وسائل الاعلام المحافظة في الجزائر إلى الدفاع عنه بدعوى أنّ الرجل مختلّ عقلياً تارة، وأب عائلة تعاني من وضع بائس وصعب، انعكس على توازنه العقلي!
لكن ما اصبح يقلق الجزائريين ليس اقبال هذا الشخص على تخريب تمثال عين الفوارة بقدر ما أصبح مثل هذا السلوك يدل على انبعاث شبح سنوات التسعينيات من خلال هذا الرفض المريع للفن والثقافة، ومعاداة كل ما بات له علاقة بالحداثة والانفتاح في مقابل تخاذل السلطات وبقائها مكتوفة الايدي أمام عودة السلفية المتوحشة واختراقها فضاءات كانت موصدة من قبل في وجهها!
إنّ تكرار مثل هذه الاعتداءات على النصب التذكارية والاعمال الفنية والكنائس اصبح يشكل قلقاً غامضاً وخوفاً لدى الجزائريين الذين باتوا يخشون عودة شياطين الدم والظلام التي كلفتهم في الماضي القريب ما يربو على المئتي ألف قتيل في ظل زمن افتقدوا فيه الأمان والطمأنينة وبصيص النور في آخر النفق.
* كاتب وصحافي جزائري