تونس | عنوان الوثائقي «أصوات من القصرين»، لعلّ أول سؤال يتبادر إلى الذهن هو لماذا اخترتم القصرين بالتحديد؟ عندما عُدت إلى تونس عام 2013 لأدير فرع منظمة «أنترناشيونال ألرت»، كانت أول زيارة لي خارج العاصمة إلى القصرين (الوسط الغربيّ التونسيّ)، ثم تتالت زياراتي لها للعمل.

بناء على ذلك، تطورت علاقات ثقة بيننا وبين المجتمع المدنيّ والأهالي في المنطقة، وهم من يقوم عليهم الشريط. تُمثّل القصرين كذلك مجالاً مهمّاً لفهم مسألتين: الأولى هي التهميش، والثانية تقييم المتغيرات التي شهدتها تونس بعد ستّ سنوات من هروب بن علي في المناطق التي ثارت. والقصرين كما هو معلوم معقل من معاقل الثورة والمنطقة التي قدمت أكبر عدد من الشهداء. إذن، ذهبنا لنرى ما الذي قدمته سنوات ما اصطلح على تسميته بالنموذج التونسي للتحوّل الديمقراطيّ للمنطقة. كانت فكرتنا أن نجوب الولاية (المحافظة) ونعطي الكلمة للمواطنين للحديث عن أوضاعهم، أحلامهم، تصوراتهم وتمثّلاتهم للوضع. لكلّ هذه الأسباب اخترنا القصرين.

■ أنت بالأساس باحثة، لكن عملك هذا جاء في شكل شريط وثائقيّ، هل مرد ذلك أنّك لاحظت وجود فجوة ما وأردت تجسيرها؟
من المؤكد أنّ هناك فجوات عدة. الفجوة الأولى التي نحاول تجسيرها بشكل مستمر في عملنا في «انترناشونال الرت» هي إعطاء الكلمة لمن هم «تحت»، أي أولئك «المهمشون» الذين لعبوا دوراً مركزيّاً في السيرورة الثوريّة وافتكت منهم الكلمة في السنوات الستّ الأخيرة، وتم إرجاعهم تدريجاً إلى ما كانوا عليه. إذ إنّ ما حدث عمليّاً هو إرجاعهم إلى هوامشهم ووصمهم مرة أخرى. ما حاولنا القيام به هو إرجاع هذه الأصوات إلى مركز الاهتمام. لذلك كان عنوان الشريط «أصوات من القصرين». هذه الأصوات، وخلافاً لما يحكى عنها، مهمّة وحاملة لحقائق وعارفة للوضع ولها شرعيّة.
الفجوة الثانية التي عملنا على تجسيرها، هي تقديم تشخيص مواطنيّ للأوضاع في القصرين عبر ثنائيّة الاستلاب والمقاومة التي تناولناها في الفيلم من أوجه عديدة، من بينها الوجه التاريخي من خلال الشهادات عن ثورة علي بن غذاهم، ثورة الفلاحين، التي عرفتها القصرين عام 1864 وكانت ثورة كبرى شملت كامل البلاد وأدت إلى طلب الباي تدخّل الأسطول الفرنسي. شكلت تلك الثورة لحظة تاريخيّة مهمّة وضعت المنطقة في الصدارة. لقد نُسيت تلك الثورة وتُروى اليوم وقائعها على نحو مهين حتى في الكتب المدرسيّة، هذا إذا ما حُكي عنها أصلاً.

■ كأنكم أردتم القول بأنّ التاريخ يعيد نفسه اليوم بشكل من الأشكال؟
نحن لم نسع لقول ذلك، لكن هذه هي تمثّلات الناس وهذا ما عبروا عنه. يُظهر الفيلم قوّة الذاكرة الجمعية في القصرين، وهي غير محصورة بفئة المسنين، بل تتجاوزهم إلى الأجيال الجديدة، التي تربط بين عامي 1864 و2011 على مستوى مركزيّة المكان واستمراريّة التهميش والمطالب: الكرامة، خاصّة في ما يتعلق بالمسألة الفلاحيّة التي لا يوليها المركز اهتماماً يذكر.
نحن لم نسع الى الحديث بدلاً عن الناس. كان خيارنا التحريريّ أن نعطيهم مساحة ليمثّلوا ضمنها أنفسهم. لذلك لا يوجد في الشريط تعليق صوتي. كلّ أشكال التعبير الصوتيّ: شهادات، شعر، غناء صادر عن مواطنين من القصرين يتحدثون عن مدينتهم من وجهة نظرهم. يتكوّن الفيلم أساساً من مجموعة بورتريهات للأشخاص والمكان.

■ من الواضح أن لا شيء تغيّر في القصرين بعد الثورة، لكن بقي التهريب يمثّل مورد رزق لجزء واسع من سكان القرى إلى أن قررت الجزائر حفر خندق حدوديّ وقررت حكومة التحالف في تونس مهاجمة التهريب بحجة ارتباطه بالإرهاب، ما ولد حركة نزوح معتبرة من أرياف المدينة إلى مركزها، برأيك كيف سيكون مستقبل المنطقة؟
صحيح، لم يتغيّر شيء، وعندما لا تتقدم الأمور فإنّها تتراجع. وهو أمر ملحوظ على المستويات كافة. هذا ما تشهد عليه الأرقام الرسميّة من ارتفاع معدلات الانقطاع المدرسي ونسب الأميّة والبطالة والفقر مقارنة ببقيّة مناطق البلاد. كما لاحظنا في دراساتنا وأبحاثنا الميدانيّة أنّ الاقصاء الاجتماعيّ يعيد إنتاج نفسه جيلاً بعد جيل، بناء على تقسيم العيّنات المدروسة على قاعدة الانتماءات المهنيّة، وهو أمر يغيب عن التقارير الرسميّة. عمليّاً، يشتغل أغلب السكان النشطين في القصرين في قطاعات هشة كعمال أو حرفيين صغار مثل التجارة الحدوديّة غير النظاميّة وفي حضائر البناء والأنشطة التجاريّة الصغرى، ولهذا بالتأكيد انعكاسات اقتصاديّة واجتماعيّة.

يتكوّن الفيلم أساساً
من مجموعة بورتريهات للأشخاص والمكان


أما الربط بين الإرهاب والتهريب، فإنّه لا دراسات ميدانية توثق العلاقة بين الظاهرتين. وفي الدراسات التي قمنا بها في ثلاث مناطق حدودية في تونس حول تمثّلات السكان للحدود، وجدنا أن الناس يشعرون بالإساءة جراء هذا الربط لأنّه يشيطن جزءاً كبيراً منهم يمارس تجارة الحدود للاسترزاق في غياب بدائل أخرى للعمل. مثّل عام 2013 منعرجاً في إعادة القبضة الأمنيّة على المناطق الحدوديّة، ومن الواضح أنّها لم تحل دون وقوع الهجمات الإرهابيّة في جبال «الشعانبي» و«سمامة» (القصرين) وفي مدينة بن قردان (جنوب البلاد)، لكن كان لها انعكاسات مؤثرة على الممارسين لتجارة الحدود. ما نقوله إنّه لا يمكن الاقتصار على مقاربة أمنيّة لا ترى في الأمن غير البوليس والسلاح. يجب أن يكون الأمن اجتماعيّاً واقتصاديّاً يُشرك ويُعطي الكلمة للناس ويأخذ في الاعتبار احتياجاتهم وانتظاراتهم.

■ الأمر مشابه في بقيّة المناطق الحدوديّة. هناك أيضاً سمات مشتركة بين هذه المناطق والمدن العماليّة في العاصمة مثلاً. في كتاب «شباب دوار هيشر والتضامن: دراسة سوسيولوجيّة» (2016)، الذي أشرفتِ عليه مع محمد علي بن زينة، تشيرين إلى تحسّن المستوى التعليميّ للجيل الثاني في الحيّين مقارنة بالجيل الأول، وبقاء ــ رغم ذلك ــ مستوى العيش على ما هو عليه. هذا يحيل على نوع من الجمود الطبقيّ، هل صار الترقّي الاجتماعيّ في تونس أصعب مما كان عليه في السابق؟
نعم هناك سمات مشتركة. نعمل في «أنترناشيونال آلرت» في أربع ولايات تقع على الحدود مع الجزائر وليبيا. لكن الهامش لا يقع بالضرورة بعيداً عن العاصمة (المركز) بل يعني الفئات التي تقع في أسفل السلم الاجتماعيّ وهي موجودة في كلّ مكان. مع ذلك، يلعب المُعطى الجغرافيّ دوراً مهمّاً. لو ننظر إلى حيّي التضامن ودوار هيشر (غرب العاصمة) مثلاً، سنجد أنّ الأجيال الأوّلى من سكانهما، جاءت من تلك الهوامش الجغرافيّة. مرد ذلك الأزمة الفلاحيّة وغياب الإصلاح الزراعيّ اللذين جعلا المنحدرين من أصول فلاحيّة دون مورد رزق، فنزحوا إلى العاصمة.
السمات المشتركة بين هذه المناطق تشمل ضعف البُنى التحتيّة الصحيّة والثقافيّة وارتفاع الانقطاع المبكر عن التعليم ونسب البطالة (تبلغ نسبة البطالة في مدينة ذهيبة المتاخمة لحدود ليبيا 42%). يمسّ ذلك بصفة أولى النساء والشباب. لا يوجد تحسّن كبير رغم ارتفاع نسب التعليم خصوصاً لدى النساء. لم تعد المدرسة تمثّل مصعداً اجتماعيّاً.
ما خلصنا اليه من دراساتنا الميدانية عن الشباب أنّ انسداد أفق التغيير هو ما يفسّر على نحو مركزي محاولات الخروج، سواء عبر تبنّي الفكر السلفيّ الجهاديّ أو عبر الحرقة (الهجرة غير النظاميّة)؛ إمّا الهرب إلى سوريا أو إلى أوروبا.

■ هناك أيضاً مفارقة مثيرة تتمثل في مطالبة الناس الدولة بأن تكون دولة رعاية اجتماعيّة، وتجيب الدولة بمزيد من اللبرلة الاقتصاديّة والتخلي عن الأدوار الاجتماعيّة.
هذا واضح، ما حصل عام 2011 كان صرخة مُطالبة بدولة رعاية اجتماعية. كانت المطالب الأساسيّة متمثّلة في الكرامة والعمل. مطلب دولة الرعاية الاجتماعيّة مركزيّ في جميع التحركات الاحتجاجيّة منذ تلك اللحظة.
صحيح أن نموذج الدولة الراعية في تراجع في العالم، لكن المقارنات التي تتم مع ما يحصل في فرنسا مثلاً مغلوطة، نحن نتحدث في الحالة التونسيّة عن تدهور كارثي في أكثر المرافق حيويّة على غرار المرفق الصحي والنقل وهما نموذجان واضحان على تراجع دور الدولة. ما زال عدد من النساء يفقدن حياتهن عند الولادة في بعض جهات داخل البلاد. كذلك، حُرر قطاع النقل على نطاق واسع وتحولت المواصلات الخاصة إلى النموذج السائد بدل النقل العمومي.
يمكن أن نعتقد ما نريد في قدرة القطاع الخاص، لكن البلاد تحتاج إلى تدخل الدولة في بناء الطرقات وشبكات النقل والبنى التحتيّة. قال لنا مسؤولون محليّون في القصرين، خلال نقاشات جمعتنا بهم، إن مستثمرين خاصين قدموا إلى المنطقة للافادة من الاعفاءات الضريبيّة. وبانتهاء آجال تلك الامتيازات، حزموا أغراضهم وغادروا. لا يمكن ترك الأمور للقطاع الخاص، وعلى الدولة وضع رؤى تنمويّة فعّالة.