بعدما عرفت الأعمال اللبنانية مجداً في الزمن الذهبي ما بين الستينيات وقبيل منتصف السبعينيات، أسقطت الحرب الأهلية إمكانية استكمال هذا الحلم، لتدخل الدراما المحلية مرحلة ركود. بعد توقّف المدافع، نشطت صناعة أخرى من بوابة lbci، تمثّلت بدبلجة الأعمال المكسيكية.
هكذا، توارت أسماء كبيرة خلف الكاميرا لتضع أصواتها على شفاه الممثلين/ات الأجانب، وتدخل المسلسلات المحلية في حالة موت سريري، مما اضطر هؤلاء الممثلين وغيرهم من جيل مختلف إلى الانخراط في هذه الصناعة لتأمين مداخيلهم متحسّرين على أيام العزّ.
بعد نجاح المغامرة المكسيكية، لا سيّما مع أوّل عملين «أنت أو لا أحد» و«مهما كان الثمن»، عادت المسلسلات اللبنانية لتنهض في منتصف التسعينيات ومطلع الألفية الثالثة، مع الكاتبين مروان نجّار وشكري أنيس فاخوري. عرض الأخير أعماله على «تلفزيون لبنان»، فيما وجد نجّار مساحته على lbci. وكان لافتاً في أعمال فاخوري (أبرزها «العاصفة تهب مرتين» ــ 1995، و«نساء في العاصفة» ــ 1997) تماثل حلقاتها مع الأعمال المدبلجة، إذ فاقت المئة حلقة، وتميّز هذان العملان بإبراز عنصر المرأة وصراعاتها المختلفة. بطولة التجربتين أُسندت إلى رولا حمادة التي عُرفت بثنائية ناجحة مع فادي إبراهيم. دأب الكاتب اللبناني في المسلسلين على إعطاء العنصر النسائي البطولة، لا بل منح بطلته في «نساء في العاصفة» صفات خارقة في إدارة كل صراعاتها، حتى في محاولة قتلها وعودتها أقوى بعد الغيبوبة، وتشريح أدوارها المختلفة والصعبة، كأم وزوجة وحبيبة... وكان فاخوري سبّاقاً قبل عشرين عاماً بطرح المثلية الجنسية على الشاشة. شهدنا في أحداث «نساء في العاصفة»، محطة بين حمادة والممثلة مارينال سركيس التي عبّرت عن حبّها للبطلة، وانتهى الأمر بصداقة بينهما رغم شغف سركيس بحمادة.

نهضة في منتصف
التسعينيات مع مروان نجّار وشكري أنيس فاخوري

تزامناً، كانت «المؤسسة اللبنانية للإرسال» على موعد مع أعمال الكاتب والمخرج مروان نجار التي اتجهت نحو نوع جديد على الشاشة اللبنانية، تمثّل بما يحب أن يسميه نجّار «إعادة صناعة الواقع». طُرحت يومها مواضيع كانت تعتبر من المحرّمات، كالسيدا، والعلاقات الجنسية، والمخدرات، إضافة إلى قضايا اجتماعية وصحية خطرة كالأدوية الفاسدة وعمالة الأطفال... «طالبين القرب»، و«أحلى بيوت راس بيروت»، و«صارت معي»... أعمال دخلت الخصوصية اللبنانية، وعاينت قضاياها، قبل أن نشهد اليوم ما بات يُسمى بالبرامج الاجتماعية. رغم النقد الموجّه إلى الحوارات التي كان ينسجها نجار، والقريبة إلى السجع والبعيدة عن طريقة الحديث اليومية، إلا أنّه استطاع استقطاب جمهور واسع وإثارة الجدل حول ما كان يعتبر «جرأة» في الطرح آنذاك.
هذه المرحلة النشطة من صناعة الدراما المحلية، ارتطمت سريعاً بفورة الفضائيات في منتصف التسعينيات، فانتشرت الصحون اللاقطة، وأنذرت بدخولنا في عصر مختلف، التهم الخصوصية والصناعة المحلية، وأذاب الهويات في قوالب عُرفت لاحقاً بالأعمال العربية المشتركة. مسلسلات جمعت ممثلين من جنسيات عربية مختلفة بغية التسويق، فامتزجت اللهجات واختلط الحابل بالنابل من دون مبرّرات دارمية وفي قوالب لا تُشبه الواقع إطلاقاً. عدد كبير من الكتّاب ركبوا الموجة، خصوصاً اللبنانيات مثل كلوديا مرشليان ومنى طايع. ولعلّ «عشق النساء» (طايع) الذي حقق نجاحاً لافتاً في البلدان العربية يندرج ضمن النجاحات التي حققت خارج حدود البلاد. مع التنويه بأنّ رأس المال العربي لعب دوراً أساسياً في تراجع الصناعة الدرامية اللبنانية، ووضع أبرز كتّابها جانباً، لتبدأ رحلة مختلفة عنوانها الاستثمار وتحقيق الأرباح، مع تسجيل بعض الخروقات.
صعود اسميّ طايع ومرشليان، شجّع أخريات على خوض تجربة الكتابة. دخلت كارين رزق الله على الخط من خلال «اخترب الحي» (2014)، ثم بـ «قلبي دق» (lbci) في رمضان 2015، قبل أن يتبعه «مش أنا» (2016 ــ lbci) و«لآخر نفس» (2017 ــ mtv). وقد عادت الشاشات اللبنانية، في مقدّمتها lbci، أخيراً للرهان مجدداً على المسلسلات المحلية، والقصص المتعلقة بالنسيج اللبناني. طبعاً، لا يخلو الأمر من انتقادات تطال أعمال رزق الله، غير أنّنا لا نستطيع استثناء هذه التجربة في سرد مسار الدراما اللبنانية.
لكنّنا نعيش اليوم مشهداً يشبه سنوات مضت، إذ تغزو الدراما المكسيكية والتركية الشاشات اللبنانية، من خلال أعمال محلية طويلة مقتبسة منها مع تسجيل تراجع لافت في صناعة الدراما محلياً التي إما وُضع كتّابها جانباً، أو أرغموا على دخول لعبة «الرايتينغ»، في ظل تحكمّ شركات الإنتاج ومحطات التلفزة بالذائقة العامة. وها نحن نشهد موضة «لبننة» الأعمال المكسيكية والتركية، كما يحدث في «الحب الحقيقي» (lbci) و«بلحظة» (الجديد)... دوّامة جديدة يدخلها لبنان درامياً، سمتها الهبوط الواضح في هذا السوق، وتسجيل فترة سوداء من تاريخ الإنتاج اللبناني الدرامي.