لا شك في أنّ الصليب يعد الأيقونة أو الرمز الأكثر شيوعاً في عالم اليوم، يختصر بذاته رسائل عديدة تشكل جوهر المسيحية بكافة اتجاهاتها وتفرعاتها. لكن الكاتبة روبن جنسن، أستاذة اللاهوت في «جامعة نوتردام»، تؤكد أنه ليس ثمة تاريخ صريح ومستقيم لتطور هذا الرمز الديني المقدس. كتابها The Cross: history, art, and controversy (منشورات جامعة هارفرد ـــ 2007) يبدأ باستدعاء قصة ما يسمى «صليب غراوند زيرو»، أي موقع جريمة تدمير برجي التجارة العالمية في نيويورك في الحادي عشر من أيلول (سبتمبر)، وهي ذات رمزية مهمة تساعد القارئ في إدراك رحلة تاريخ الصليب والمواقف التي يستدعيها حضوره، الحقيقي أو المتخيل، تاريخياً وفي هذه الأوقات.

فقد عثر أحد عمّال رفع الأنقاض على دعامتين من الحديد الصلب سقطتا مصادفة متقاطعتين وشكلتا شكل صليب. لكن بعض المشرفين أوّلوه على أنه علامة من الرب، على أنه معجزة، على أنّه قول من الرب بأنه لم يترك عباده، وأُدخل ضمن الآثار التي ستوضع في المتحف الذي أنشأته الولاية في مكان الجريمة. الأمر لم يرق لبعض الملحدين، فرفعوا دعوى في المحاكم رافضين تسخير أموال دافعي الضرائب لدعم رمز ديني، ما يتناقض مع الدستور، إضافة إلى حقيقة أنّ كثيراً من الضحايا لم يكونوا مسيحيين.
المحاكم المختصة رفضت الاعتراض بحجة أن وجوده في المتحف لا يعني أفضلية دين على آخر، وفي الوقت نفسه فإن عرضه ليس دعوة تبشيرية. وهكذا، نرى أنه استحال تدويراً لنصر مأخوذ من هزيمة مدوية.
المهم أنّ هذه القصة تعكس رمزية الصليب لدى بعضهم: فهو رمز تاريخي، ونتاج تاريخي، ورمز ديني، ورواية لمأساة، وما إلى ذلك. بعضهم نظر إلى الصليب هنا على أنه رمز الأمل والإبلال والعزاء والمواساة. آخرون نظروا إليه على أنه شعار الاستبعاد والتعصب والهيمنة. هذه الرواية تعكس مواقف متعددة من الصليب، في كثير من البلدان والحضارات والثقافات.
لكن هل نشأ إجماع بين أتباع الديانة الجديدة قادهم إلى اعتماد الصليب رمز المسيحية، أو الرمز؟ آخذين في الاعتبار معاني هذا الرمز التي أشرنا إلى بعضها آنفاً، فإن الكتاب يبحث في تاريخيته والمعاني العديدة التي حملها، والتناقضات في تلك المعاني، ومختلف المواقف منها، وكيف تحول في نهاية المطاف إلى رمز جامع للمسيحية.
تذكّر الكاتبة القارئ بأن الصليب، يحمل في الأصل معنى الوحشية، فهو يشير إلى أسلوب القتل الذي مارسته الإمبراطورية الرومانية، وهو عقاب مخصص للمجرمين فقط. من هنا نشأت مشكلة للمتعبدين الأوائل في كيفية الجمع بين أسلوب هذا العقاب، المهين والقبيح، وكون الضحية هو «ابن الرب».

حمل في الأصل معنى الوحشية،
إذ يشير إلى أسلوب القتل الذي مارسته الإمبراطورية الرومانية

من هنا، تتبين مشكلة كيفية مقاربة هذا الرمز وتاريخيته. لذا، فإن الكاتبة تؤكد أنه ليس ثمة مؤلف قادر على متابعة إلا جزء يسير من هذا التاريخ. كما أنه من غير الممكن فصل الحقيقة عن الأساطير والخرافات. لذلك، فإنها تؤكد أن عملها محاولة متواضعة لتغطية بعض جوانب تاريخ هذا الرمز عبر العقود. كما أنها أثْرَته بعشرات المصورات الملونة التي تهدف ـــ دوماً بكلماتها ــ ليس فقط لدعم النصوص، وإنما أيضاً للسماح لها بنقل رسالتها القوية متعددة المعاني والرسائل على نحو مستقل.
تناولت الكاتبة تاريخ الصليب في تسعة فصول ابتداءً من الإشارة إليه في الأناجيل وانتهاءً بالمفهوم الجندري الأنثوي في القرن العشرين. أي أنها رتبت عرضها وفق مراحل حياة الصليب. فالصليب انتقل من كونه أيقونة ورمزاً إلى فن وطقس عبر نحو ألفي عام، لكن من دون أن يتوقف عن أن يكون مصدر إلهام وتأليب. عبر تقليب طبقات تاريخه، في استعراضها، وبكلماتها، يتبين الصليب كأحد أشكال القتل الملعونة، وكقاعدة أو مرجعية عسكرية، وأخيراً وليس آخر كونه أسطورة وحكاية. هذا العرض يظهر كيف أن الصليب بقي عبر العصور مصدر قلق وإزعاج للمؤمنين به ولغير المؤمنين.
هذا الاستعراض التاريخي ـــ غاية في الاختصار ــــ يظهر مدى تعقد صورة الصليب عبر القرون والعهود وفي مختلف الطوائف. فقد تم فهم الصليب على أنه استخلاص أو تلخيص كوني، وعلى أنه بورتريه معاناة قاسية بل حتى وحشية، وأنه إرهاص سلطة منتصرة، وأنه صنم وجب تحطيمه، وأنه ذخيرة وجب تقبيلها، وأنه تعويذة وضعت على دروع المحاربين الصليبيين، وأنه شجرة الحياة (انظر صورة غلاف الكتاب المرفقة)، وأنه أحجية إشكالية.
من الأمور الأخرى التي نود الإشارة إليها في هذا العرض المختصر، القول إنّ الآثار الرومانية تظهر أن الذكور والإناث الذين تعرضوا للصلب كانوا عرايا. من هنا، فإن بولس الرسول لم يشر إلى الصليب، في النصوص التي يعدها أهل الاختصاص الأقدم، لكنه أكده في النصوص اللاحقة (غلاطية 11:5) وجعل منه أساساً. لكننا نعلم بأنه أثير جدل طويل حول ما إذا وجب تشخيص المسيح وكيفية ذلك. يوضح الكتاب أن الإمبراطور قسطنطين لم يكن ينظر في رسم الصليب قبل توجهه للمعارك، وإنما في رسم «اللبرومة» (Chi-Rho = X+P باللاتينية) قبل توجهه للمعارك. وهو مأخوذ من أول حرفين من اسم المسيح باليونانية (خرستوس)، مضاف إليها جملة (in hoc signo vinces)، بمعنى «سننتصر بهذه العلامة» (انظرen.wikipedia.org/wiki/Labarum).
أما الإشارة الأولى التي ترد إلى تمثيل المسيح على الصليب، فلم تظهر سوى في القرن الخامس من التأريخ السائد (ت س)، أي بعدما تحولت المسيحية من أحد أديان الإمبراطورية إلى الدين الوحيد المسموح به ضمن حدودها. رمز العقاب تحول أخيراً إلى شعار الإمبراطورية المسيحية.
توضح الكاتبة أنه وجدت طوائف في الغرب المسيحي (كلاوديوس أسقف مدينة تورينو الإيطالية 810-827) شعرت بالقلق من تحول المصورات المسيحية إلى ما يشبه عبادة الأصنام! هذا ما قاد إلى اتهامه بالهرطقة، خصوصاً بعد انتشار البروتستانتية، الحركة المسيحية الأصولية، التي رفضت الرموز والأيقونات.
من المعروف أيضاً أن الصليب وظّفه المستعمر رمزاً للاضطهاد الاستعماري والهيمنة والاستبداد، وأنه رمز القوى العنصرية مثل عصابة «الكوكلاكس كلان» في الولايات المتحدة، وأنه كان مرافقاً لكافة الحملات الاستعمارية. لنتذكر هنا فرض المسيحية على أهل القارات الإفريقية والأميركية، إضافة إلى الحروب الصليبية. لكن الصليب استحال من رمز للهوية الجماعية إلى رمز مقدس، يعني استجلاب النصر على معاناة عظيمة.
لكن الصليب أضحى رمز الحب والخسارة والإنقاذ [من الخطيئة] والامتنان، ولذا فإننا نراه في الكنائس كافة وفي مختلف أنحاء العالم.

المعروف أيضاً أن الصليب
وظفه المستعمر رمزاً للاضطهاد الاستعماري والهيمنة والاستبداد

للتذكير، رمز المسيحية الأول أو الأقدم كان السمكة (مرقس 1: 16-18) أو المرساة، رمز الثبات (انظر jesuswalk.com/christian-symbols/anchor.htm)
أما تصوير المسيح على الصليب، فلم يظهر ـــ وفق ما توافر من مراجع تاريخية وآثار ـــ إلا في عام 421 ت س، وهو ما أسلفنا ذكره. فالمسيحيون كانوا مترددين في تصوير المسيح يعاني سكرات الموت على الصليب، وفضلوا تصويره على أنه حي؛ أو تصوير الصليب من دون المسيح مصلوباً عليه، رمزاً لنصره على الشر والإثم والموت.
في القرنين الثامن والتاسع، عاد المسيح يظهر وهو يعاني سكرات الموت أو حتى ميتاً على الصليب، تأكيداً لمعاناته.
ثمة رأي سائد في هذا الموضوع، يقول إن مدينة القدس كانت المركز الذي انتقل منه الصليب رمزاً، وأنه تحول إلى رمز للمسيحية بسبب رؤية قسطنطين [مع أنها ترد ضمن روايتين متباينتين وفق بحثنا] وكذلك نتاج بناء كنيسة القيامة في مدينة القدس المرفقة برواية عن عثور هلينا، والدة قسطنيطن، على بقايا الصليب في مكان حفر مكان الكنيسة حيث تم عام 326 هدم معبد جوبتر (jupiter capitolinus) الذي أقيم مكان معبد هِرُدس (حرد العربي) الذي مسح من على وجه الأرض، وفق المصادر التاريخية. وتمت حراثة المكان لتطهيره[!] تمهيداً لبناء المعبد الوثني الروماني [انظر en.wikipedia.org/wiki/Aelia_Capitolina#/media/File:Hadrian_founder_Aelia_Capitolina.jpg]. في أثناء الحفر في مكان المعبد الوثني، عثر العمال على قبر عرَّفته القديسة هلينا على أنه عائد للمسيح وأمرت ببناء نصب أو مزار فوقه، وهو الذي تحول مع مرور الزمن إلى كنيسة، كثيرة التعديلات إلى أن صارت ما هي عليه الآن، أي كنيسة القيامة، أي كنيسة موته وقيامته بعد موته.
ومن الأمور الجديرة بالذكر هنا، وهو ما لا يظهر في هذا المؤلف، أن الإمبراطور قسطنطين أمر عام 337 بإلغاء عقوبة الصلب، مما سمح وقتها للمسيحيين بإظهار الصليب كأيقونة. لكن الكاتبة لم تشر في مؤلفها المهم هذا، إلى تصوير المسيح على الصليب ككبير الكهنة (commons.wikimedia.org/wiki/File:Volto_Santo_de_Lucca.JPG).
مؤلف مثير يلخص بعض جوانب رحلة هذا الرمز المسيحي المقدس، موجه للقارئ العادي ولأهل الاختصاص على حد سواء.