القاهرة | عبر ثلاث روايات، وثلاث رحلات، وستّ مجموعات قصصية، وعشرة أفلام سينمائية، ما بين قصة وسيناريو... حفر صبري موسى (1932-2017) لنفسه مكاناً متميزاً في تاريخ الأدب العربي. صاحب «حادث النصف متر» رحل أول من أمس بعد رحلة طويلة من المرض، لم يشكُ خلالها أو يطلب من مؤسسات الدولة علاجاً.
انسحب تاركاً خلفه عالماً إبداعياً متميزاً، وطرقاً وأساليب إبداعية ابتكرها ليسير فيها آخرون.
في كل قوائم أهم الروايات العربية، تحتفظ رواية «فساد الأمكنة» لصبري موسى بمكانتها المميزة. قد تزيح بعض الروايات روايات أخرى، لكن تظل هذه الرواية ضمن ترتيب متقدم في كل القوائم. كتب موسى روايته قبل هزيمة الـ 67، مستشرفاً ما سيحدث. وقتها، كان صحافياً في مجلة «صباح الخير»، يقوم برحلات في الواحات والصحراء والبحيرات، والنهر. نشر في المجلة رحلته إلى الصحراء الشرقية في عام 1963 بهدف التعرف إلى تلك المنطقة.
على مدى أربعة أعوام، ظل مشغولاً بالرحلة، يشاغبها، وتشاغبه... حتى تكوّن لديه عالم روائي قرر أن يكتبه على الورق: «كان يخيّل لي أنني أول من يضع قدمه على تراب تلك المنطقة، فاستواء رمالها، ونقاؤها ونظافتها، كل ذلك يمنحك شعوراً طاغياً بالبكارة. كأنك آدم، وكأن كل شيء يدعوك إلى إقامة حياة جديدة»، كما قال في حوار معه. فجّرت فيه الرحلة أسئلة عن الوطن: هل هو مسقط رأس الإنسان؟ أم مكان طفولته وشبابه؟ أجاب روائياً: إنه البيئة التي تمنح الإنسان أسباب العمل والخلق والابتكار. كان بطله «نيكولا» إيطالياً، يدمن السفر والترحال، باحثاً عن ذاته بدون أوهام تكبله. وفي رحلة البحث عن الذات، كان يبحث أيضاً عن مفهوم الوطن!

ترك مخطوطة «فنجان قهوة قبل النوم» التي تضم تأملاته
في نصف القرن الأخير


كانت الرواية أشبة بموّال، يبكي فيه كاتبه كل شيء. وقتها لم تكن الهزيمة قد وقعت، ولكن كانت «إرهاصاتها واضحة» كما قال، حيث «يتغلغل الإحباط في كل شيء، وعندما تهزم الذات الفردية يهزم الوطن، ومن المستحيل أن يبدع فرد ووطنه عاجز مهزوم».
وكما كان نيكولا أشبه بآدم الذي بدا كأنه أول من يطأ تلك الأرض الصحراوية البكر، كان السيد آدم جديداً أيضاً في «السيد في حقل السبانخ» (1982)، حيث غادر موسى الحاضر، متخيلاً ما ستكون عليه البشرية بعد أربعة قرون. لذا افتتح روايته بتلك العبارة: «نحن البشر نمرّ الآن بوضع شبيه بإنسان ما قبل التاريخ، عندما فتح عينيه منذ أكثر من خمسة آلاف سنة، على دنيا جديدة تماماً».
الرواية صنفها النقاد باعتبارها رواية «خيال علمي»، ولكن صاحبها كان يعتبرها نوعاً جديداً من الرواية هي «الرواية المستقبلية»: «الخيال يهتم بالوسائل. إنّ فناناً ما يحاول أن يرسم صوراً لوسائل واختراعات علمية. أما الأدب العلمي، فيتعامل مع القيم التي تتأثر باكتشافات علمية قائمة». في الرواية، حاكم المؤسسات الاجتماعية متوقعاً زوالها مثل الزواج والأبوة والبنوة... وعندما عدَّ بعض النقاد الرواية انفصالاً عن الواقع، أجاب: «ليس مطلوباً من الأدباء أن يكونوا أفراداً في جيش، ومن حق الأديب أن يهتم بالمشكلات التي يراها جديرة بالاهتمام، من دون أن يكون هذا انفصالاً عن الواقع لأنه واقع فعلاً».
موسى المولود في دمياط، درس الفنون الجميلة، وعمل في بدايته مدرِّساً للرسم. وقتها كان يكتب الشعر، ونشرت له مجلة «الرسالة الجديدة» بعض قصائده التجريبية التي كانت إرهاصاً بما سيشغله لاحقاً من أفكار. لم يستمر طويلاً في مهنة التدريس، ليلتحق بالعمل في جريدة «الجمهورية»، ثم انضم إلى مؤسسة «روز اليوسف» في وقت أصدر فيه أحمد بهاء الدين مجلة «صباح الخير» التي كان شعارها «للقلوب الشابة والعقول المتحررة». كان بهاء الدين يبحث حينها عن شباب متحمس قادر على المغامرة الصحافية الجديدة، ووجد ضالته في صبري موسى الذي تخصص في السفر إلى مناطق جديدة في مصر لم يُلقَ الضوء عليها من قبل. كان أشبه بالمستكشف أو الرحالة. ومن تلك الرحلات، استقى أفكار رواياته وقصصه وحكاياته. ولم يكتفِ بطرق باب الكتابة الأدبية، بل اقتحم عالم السينما وحملت أفلام مهمة توقيعه ككاتب سيناريو مثل «البوسطجي»، «قنديل أم هاشم»، «قاهر الظلام»، «الشيماء»، «أين تخبئون الشمس» وغيرها.
رحل صبري موسى، تاركاً رواية مخطوطة بعنوان «فنجان قهوة قبل النوم»، كان قد أعلنها في فترة مرضه. قال إنّها «مزيج من روح السيرة الذاتية وسيرة جيل عبر تأملي للحياة وعلاقاتي الإنسانية فيها. ما أنجزته من الكتابة في الرواية يصلح لأن يكون ثلاث روايات، فهي أيضاً تتضمن تأملي لنصف القرن الأخير، وتجاربي فيه مع الآخرين وما حدث في مصر، وأنا ليس من طبيعتي إنجاز أعمال ملحمية، بل إنني فضلت أن أترك العنان لتداعياتي»... فهل نشهد صدورها قريباً؟