في معرضه «أيقونات تدمرية» الذي أقيم قبل عامين في غاليري «مارك هاشم» في بيروت، وضمّ ترجمات تشكيلية معاصرة لعناصر وتفاصيل من الفن التدمري ومن فنون سوريا القديمة، ربما لم يكن يُخيَّل للفنان السوري نزار صابور (1958) أن داعش ستدخل مدينة تدمر نفسها، وتقطع رأس مسؤول الآثار فيها، وتنفذ عمليات إعدام جماعية على مسرحها الروماني الشهير.
نستعيد هذه المفارقة السوداء في معرضه الجديد «القلمون» الذي افتُتح أخيراً في الغاليري نفسها، فالعنوان واضح ومباشر في دلالته السياسية، وإن كان الفنان نفسه يستخدم اللوحة وتقنيات الرسم في إظهار هذه الدلالة. هناك روحية رثائية – إحيائية – قياميّة لما يجري من دمار في هذه الجغرافيا السورية التي لا يزال بعض سكانها يتكلمون اللغة الآرامية. وفي قلب هذه الجغرافيا، تتموضع مدينة معلولا التي رسمها الكثير من الفنانين السوريين ومن أجيال مختلفة، بحيث يمكن القول إنها صارت جزءاً من المحترف السوري الحديث، وهو ما أشار إليه الشاعر والرسام السوري منذر مصري في تقديمه للمعرض. هناك نسخ فنية سورية عديدة من معلولا التي تحول اسمها وحده إلى أيقونة ضخمة، من دون الخوض في تفاصيلها الأيقونية الصغيرة كمدينة مقدسة في نسيج المجتمع السوري وثقافته العامة. والقداسة في الوجدان السوري هنا هي مسألة مدنية واجتماعية أوسع وأعمق من حصرية المعنى الديني.
انحاز منذ بداياته إلى عناصر لها علاقة قوية بالإرث المحلي

هذا البعد التاريخي والحضاري والمجتمعي يتسرب باستمرار من لوحات المعرض التي تحاول أن تكون لوحاتٍ فقط، ولكنها لا تنجح في النجاة من الصورة الراهنة الراهنة للأمكنة القلمونية التي تعرضت للدمار والقصف والتهجير والقتل والخطف. كما أن الزائر لا يمكنه أن يتجنب أن جغرافيا اللوحات وبيئتها تعيش في زمن الحرب. وفي المقابل، لا تبدو موضوعة المعرض غريبة أو مستجدة على شغل نزار صابور الذي انحاز منذ بداياته إلى هويات وعناصر وحتى تقنيات لونية لها علاقة قوية بالإرث المحلي وبالتراكمات الخصبة التي حققها المحترف السوري المعاصر. الفنان الذي أخذ من الطبيعة الساحلية في مسقط رأسه اللاذقية، وتخرج في كلية الفنون الجميلة الفن في دمشق، وأكمل دراسته العليا في موسكو، اهتدى في النهاية إلى لوحة تستثمر الخامات والمشهديات والتضاريس المحلية للوصول إلى بصمة شخصية أو مدونة لونية وفنية تُفرد له مكاناً لائقاً إلى جوار تجارب مجايليه وتجارب من سبقوه أيضاً.
والواقع أن الموضوعات الأيقونية التدمرية والقلمونية ليست بعيدة عن مشاغل صابور الجوهرية، فقد سبق له أن أنجز أعمالاً أيقونية تكاد تخصّه وحده، وخصوصاً تلك اللوحات المنفذة بروحية الرولييف التي تضمنت عناصر وتأليفات أيقونية محاطة بترميزات وأشكال من الفضاء نفسه. نتذكر تلك الأعمال الشبيهة بأحواض مربعة قليلة العمق معلقة على الجدار، وتواجه المتلقي بتأليفاتها التي تمزج بين التفاصيل الملونة والمجسّمة. الأعمال في معرضه الجديد تنتمي إلى روحية تلك الأعمال السابقة. صحيح أن الأبعاد النافرة والمجسمات الصغيرة غائبة الآن، ولكن المذاق الأيقوني العام ينبعث من كل لوحات المعرض. هناك لوحات تحمل عناوين أكثر وضوحاً، وهو ما نراه في أعمال مثل: «أيقونة معلولا»، «أيقونة محروقة في معلولا»، «معلولا الآرامية»، «روح معلولا»، وهناك أيضاً الأعمال الدائرية التي تشبه الأختام الأثرية في فنون سوريا القديمة، إضافة إلى خلطة الألوان التي يصنعها نزار صابور يدوياً من مواد وأتربة وخامات محلية. كل ذلك ينتهي بنا إلى تأمل تلك البيوت والأديرة التي تحتل واجهة لوحات المعرض، بينما ترتفع فوقها التلال القلمونية والمعلولية التي نعرفها من صور المدينة والمنطقة. إنها لوحات مشرقية تتعزز فيها البيئة والهوية السورية، وتتحول إلى شواهد على ما يجري من دمار وحروب، أو بحسب كلمات نزار صابور نفسه في تقديم المعرض: «حين هبّت العاصفة/ حتى الآلهة ارتعدت/ ابتعدت صاعدةً إلى السماء/حين الحرب.../ كأن كل شيء قد غادر المكان/القديسون والبشر وأثرهم».

* ««القلمون» لنزار صابور» حتى 22 كانون الثاني (يناير) الحالي. «غاليري مارك هاشم» (وسط بيروت). للاستعلام: 01/999313