حالما نذكر عبارة «الضاحية الجنوبية»، حتى تتساقط في مخيلتنا معظم الصور النمطية، التاريخية والمعاصرة، عن هذه البقعة اللبنانية. الضاحية، التي اختُزل سكّانها بهذه الصور المنمطة والمجحفة، حاولت المخرجة سهى صبّاغ، تقديم كسرها، مقدمة صورة مختلفة، تشبه واقعها اليوم، مستعيدةً تاريخيتها، من مرويات سكّانها الأصليين، الذين عاصروا كل مراحلها، بدءاً من مرحلة ما قبل نكبة فلسطين، وصولاً الى انتصار تموز 2006، والخروج من أتون الجماعات التكفيرية التي جزّرت بأهلها في السنوات الماضية.
«إحكيلي عن الضاحية» (إعداد وإخراج سهى صبّاغ)، الذي عرضته «الميادين» أخيراً، يجهد في توثيق تاريخ الضاحية، متنقلاً بين أهلها، المتنوعي الشرائح الاجتماعية والمهنية، وحتى الدينية، لمحاولة تقديم صورة مختلفة عن السائد.
مجموعة شخصيات، من أطباء ومعلمين، واقتصاديين، وسياسيين، وفنانين... جمعتهم مروحة هذا العمل الوثائقي. اجتمعوا ليحكوا عن الضاحية، والماضي البعيد، والحاضر المتغيّر على ضوء تبدلات اجتماعية وسياسية، حكمت هذه المنطقة. الضاحية تدّرجت في السرد التاريخي، من منطقة توصف بـ «الحديقة» لما كانت تحويه من مزروعات ومساحات خضراء شاسعة، ترفد مدينة بيروت، بالخضار والفاكهة، مروراً بالتبغ الذي أتى به أهل الجنوب، اليها، عندما قمعوا من الإقطاع السياسي والاجتماعي، وصودرت أراضيهم، ليلجأوا بدورهم الى الضاحية، طلباً للرزق. تتنقل كاميرا «إحكيلي عن الضاحية»، بين هذه الشخصيات، التي جاء اختيارها بالتأكيد، بهدف كسر الصور النمطية عن أهل الضاحية، فمن رئيسة قسم الأعصاب في «الجامعة الأميركية في بيروت» سهى كنج، مروراً بطبيب الأسنان عماد بدران، وصولاً الى الاقتصادي حسن مقلّد، ومدير عام مدارس الضاحية أحمد كزما، والمؤرخ حسن موسى وغيرهم... تعاقب هؤلاء وجوهاً وحكايا على هذا العمل، ليطلوا على الواقع الاقتصادي المأساوي اليوم، والمعيشي (مشكلة المياه المالحة)، ويرووا كيف بدأت هذه المنطقة تتكوّن سكانياً، وديموغرافياً، وحالات النزوح التي شهدها الجنوب بسبب الاحتلال الصهيوني، واحتلاله لفلسطين، واجتياحه لبيروت، وصولاً الى ضاحيتها. هنا، يتوقف هؤلاء عند هذه النقطة، وعند انضمام العنصر الفلسطيني اليها بعد هجرتهم من بلادهم قسراً، ليضحوا مندمجين مع باقي الفقراء الذين يشبهونهم في الضاحية. يتوقف الفيلم عند محطات محددة من هذا التاريخ، ويخص الأوزاعي بالبحث، المنطقة التي أضحت مصيف هؤلاء في الفترات الماضية، ومتنفسهم على الساحل اللبناني. كما يطل على النسيج الاجتماعي/ الديني، عبر اختيار كنيستي «مار ميخائيل» (الشياح)، و«مار يوسف» في حارة حريك.
يتقصدّ العمل التنقّل بين ميادين حيوية مختلفة، من الرياضة، الى الطب، والاقتصاد، والتربية، وحتى الفن والدين، ليرسم مشهدية هذه المنطقة، ويقف على ما عانته من تهميش وإهمال رسمي، ومن حروب متتالية، عدوانية إسرائيلية، حاولت تهشيم ملامحها، بكتل الدمار، وحصد الأرواح والضحايا. وبين هذا السرد، تبقى المقاومة، التي خرجت من رحم هذا النسيج، الأساس في كل هذا النقاش. المقاومة التي تلوّنت وتعدّدت منذ الاجتياح الصهيوني، وصولاً الى انتصار تموز، ومقارعة المجموعات التكفيرية. الظلامية التي حاول الأعداء دمغها بالضاحية، وتصويرها على أنها «بلوك» ديني واجتماعي واحد، يعمد الشريط الى تظهير حالات التنوّع داخلها، وكسر صورة النازحين أو «العتّالة» الآتين من الجنوب والبقاع، الذين يعانون من الفقر و«الحرمان». يظهر الشريط كيف تحوّلت الضاحية مع الوقت الى قوة اقتصادية، ومنطقة تستقطب السياحة الطبية، وتضم أضخم المستشفيات، وتحتضن كذلك أنواع الفنون، إسلامية كانت أم خلاف ذلك.