عمان ــ عبر مواقع التواصل الاجتماعي، أعلنت الكاتبة الأردنية كفى الزعبي بأنّ هيئة الإعلام في الأردن منعت روايتها الجديدة «شمس بيضاء باردة» (الآداب ـــ 2017) من دون إبداء الأسباب. منعت الهيئة تداول الرواية وطلبت من موزعيها إعادة تصدير النسخ التي في حوزتهم. وبذلك، افتتحت الزعبي موسم سلطة الرقيب المحلي، الذي لم يعطِ تأشيرة العبور لكتاب من 318 صفحة!
قد يحلو لبعضهم أن يُؤخذ الموضوع من جانبه الثقافي بمعزل عن الحالة العامة التي تمر بها المملكة. يبدو هذا ضرباً من السذاجة، خصوصاً أنه منذ أشهر طاول المنع بعض الفعاليات والمهرجانات والاعتصامات. لكن حتى إذا أخذنا الأمر من جانبه الثقافي البحت، فلا تحرك ملموساً من النخبة الثقافية وقوفاً إلى جانب زميلتهم الزعبي. لا بيان صدر عن رابطة الكتّاب، ولا حالة ضغط فرضها الكتّاب والناشرون عبر الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي يدينون فيه هذا السيف المسّلط على رقاب الأقلام. وربما كان للأمر علاقة بمواقف الكاتبة السياسية إلى جانب محور المقاومة رغم أنّها لم تزج بها في روايتها، بل أبحرت في مواضيع فلسفية ومقاربات عميقة مع طروحات كتّاب آخرين تصطف أعمالهم على رفوف المكتبات العامة والجامعية والخاصة في الأردن.
المنع مع «عدم إبداء الأسباب» هو تجلٍّ للعقلية الأبوية ذاتها التي ما انفكت تتعامل بخفة مع عقول القرّاء وأيضاً مع الكتّاب. كأنهم اقترفوا ذنباً أو فعلاً مشيناً لا يجب الحديث عنه، لا سيما أن «المخطئة» هذه المرة كاتبة.
ما زال ثالوث المحرّمات «السياسة، الجنس، الدين» هو نفسه المسيطر على عقلية الرقابة. حتى مع الطيف الواسع لكل محور من هذه المحاور الشائكة، يعتمد الرقيب على فهمه الخاص لهذه المحرمات، مستنداً إلى قناعاته الشخصية والأيديولوجية (حتى لو كان غير مؤدلج)، مُطوّعاً لائحة القوانين لدعم رأيه. بذلك وبحُجَة مخالفة القوانين والأنظمة، يحصل المنع وتظهر هيئة الإعلام كأنها منفّذة للتعليمات التي بحوزتها، في حين أنها تقدّم مساهمة سلبية لتطوير عملية الرقابة الآخذة بالازدياد في ظل غياب نقد بناء حقيقي لكامل منظومتها.
عند شرفتها المطلّة على عمّان، تجلس مع كفى الزعبي. تلقي نظرة سريعة على المدينة الاسمنتية التي ضاقت فجأة مع مشروع العبدلي الضخم، الذي جاء ليفرض طابعاً عصرياً على مدينة لم تتقدم في جوهرها رغم تجميلاتٍ شكلية بدت نشازاً عمّا عليه الواقع. كفى باسمها الغريب، تقول إنها ربيبة بيت طين في الرمثا، سافرت إلى «الاتحاد السوفياتي» لدراسة الهندسة واستقرت في سان بطرسبورغ. تعرّف نفسها بأنها روائية وروايتها «الضحية» تعد عملها الأدبي السادس، بالإضافة إلى أبحاث وترجمات من الروسية إلى العربية.
تعلّق كفى الزعبي على المنع، قائلةً: «إنّه أمر غاية في السوء، يؤثر بشكل مباشر على الإبداع والأدب. كيف يمكن للكاتب أن يمارس حريته وقناعاته، وهناك رقيب يقف فوق رأسه؟». وتضيف أنه مهما كان سبب المنع، فإن الكاتب لا يجب أن يكرر الخطاب السائد، بل عليه التصدي للأسئلة والقضايا الجوهرية التي يعانيها الإنسان العربي، وتشكّل في مجملها أسباب أزماته، سواء كانت اقتصادية أم فكرية أم سياسية واجتماعية. وهذا بالذات ما فعلته الرواية الأوروبية منذ عصر النهضة، منذ سرفانتس ورابليه. إذ تناولت كل قضايا الإنسان الأوروبي وطرحت أسئلته بجرأة، وأسهمت بالتالي في مشروع النهضة وتشكيل شخصية الفرد الأوروبي. لكن الرواية العربية ولأسباب كثيرة، منها حضور الرقيب، الرسمي المعلن والخفي غير المعلن، فإنها لا تمتلك الحرية الكافية لإنجاز هذه المهمة في التصدي لتلك الأسئلة والقضايا.
من ناحيته، يقول الكاتب والناقد الفلسطيني وليد أبو بكر إنه من حيث المبدأ ضد الرقابة على الإبداع الحقيقي، لأنها ضد حرية التعبير التي تميز الإنسان. ويضيف أنه «حين ترى السلطة الرقابة «ضرورية» في أي مجتمع، فيجب أن تكون بين أيدي من يقدّرون المادة التي تقع تحت أيديهم. الإبداع ليس مجرد رأي عابر. الإبداع الحقيقيّ مادة معقدة، تختمر في ذهن المبدع طويلاً، ويمحّصها، ويعيد مناقشتها ومراجعتها حتى مرحلة الرضى والانطلاق.

رواية تعقد جدلاً بين أسطورتين شهيرتين: ملحمة جلجامش، وأسطورة سيزيف

أما التقييم، حين يفرض نفسه، فيفترض أن يكون بمستوى الفعل الإبداعي لا دونه. وحين يتعلق الأمر بعمل روائي، فإنه يحتاج إلى مزيد من الدقة، والوعي المسبق. إن ما يجري على ألسنة الشخصيات الروائية لا يكون فكر الكاتب، وإنما رأي الشخصيات في الزمان والمكان المحددين. أما الفكر، فهو محصلة العمل كله».
الشاعر والناقد الأردني مهدي نصير يصرّح لـ «الأخبار» بأنه فوجئ بقرار منع الرواية التي قرأها بمسودتها الأولى قبل صدورها، وهي برأيه ترصد واقع وتحولات المثقف الأردني والعربي واغترابه القسري في مجتمع يرزح تحت ردم كثيف من التخلف والجهل والتجهيل والفقر والإفقار. مما يدفع المثقف للانكفاء والاكتئاب والتمرد السلبي الفردي لعدم القدرة على التمرد الجمعي المحاصر بالتدين السلفي التكفيري المسيطر على مجتمعاتنا وبالسلطة السياسية المتماهية معها والفاقدة لشرعية الحضور والإنجاز. ويضيف نصير أنّ هذا المنع لعمل روائي جاد، يدل على عقلية أفلست من قدرتها على إدارة أي حوار حقيقي يتناول مشاكل مجتمعاتنا من خلال قراءة نخبته الواعية لجذور وأسباب هذه المشاكل وهذا التخلف والانهزام الساكن باستعصاء لاهوتي في خلايا وتفاصيل حياتنا. ويرفض نصير هذه المصادرة الفجة للفكر والأدب والثقافة بكل أشكالها. ويؤكّد أن هذا السلوك السلطوي تجاه الثقافة الجادة وفتح الأبواب والنشر والإشهار لأدب سطحي وتافه يتماهى مع الخطاب السائد، هو خطيئة بحق الثقافة والمجتمع.
أما عن الرواية، فيقول بأنها كأعمال كفى السابقة «ليلى والثلج ولودميلا» و«ابن الحرام» و«س»، ذات قراءة إشكالية وتأويلية تأخذ من ثقافتنا الجمعية وتنتقدها وتعيد قراءتها وتبيئتها في الواقع التاريخي للناس في محاولة لقراءة هذا الاستعصاء والتخلف والانهزام الذي نعيشه كمثقفين وكمجتمعات عربية تعيش خارج الحياة. ويضيف بأنه يظن أن من منع الرواية لم يقرأها، وربما سيعطي هذا المنع فرصة لهذا العمل أن يُقرأ أكثر.

حزمة أسئلة

قدّمت كفى الزعبي عملها الجديد على لسان بطلها المأزوم الذي جاء من أحد محافظات الأطراف إلى عمّان بقصد الدراسة ثم العمل. أخفت بذكاء اسم بطلها، فهو غير مهم مقارنة بالحالة التي تعترينا كما تعتريه بنسب متفاوتة. فلم يرد اسمه سوى ثلاث مرات على مدى كامل العمل. هو رجل مثقل بالهزيمة والاغتراب يصف نفسه بالمنحط والسافل والوضيع والخائف والجبان والساقط، ولا يذكر والده «رمز الأبوية المطلقة» إلا وهو يردد نقده له: «لماذا لست كسائر خلق الله الطبيعيين؟». حتى إنّ البطل بحد ذاته يصل به الأمر لطرح السؤال ذاته على نفسه ضمن عدد كبير من الأسئلة الأخرى التي تتناول علاقة روحه التائهة بكل ما حوله. هو فقير مثقف ارتكب خطيئة، فاعترف بضعفه ولم يجد من ينتشله من دوامة الجنون التي أحكمت قبضتها عليه. لجأ للكذب حتى ينقذ نفسه في بعض المواقف مع بعض الشخصيات التي لا مفر منها وبالأخص والده، ولكنه لم ينافق المجتمع الذي وجد نفسه مرغماً على العيش فيه من أجل العمل لسدّ ديون متراكمة.
في هذه الرواية «غير التجارية» التي تمثل السهل الممتنع، تأخذ شخصيات العمل الكاتبة عنوة لدق أجراس كساها الغبار وشباك العنكبوت. الصوت مزعج لدرجة تنبّه القارئ إلى ما آلت إليه مجتمعاتنا بفعل تغييب العقل أو استحضاره، ليبرر أفعالنا الإنسانية الشنيعة. يظهر المونولوج الداخلي للبطل واصفاً ذلك: «خطر لي أنّ الإنسانية المرتبطة في أذهاننا بالخير والفضيلة، مفهوم لا وجود له إلّا في اللغة فحسب. إنّها وشاح كلام مخمليّ، يطيب لنا التدثّر به، بعد أن نطرّزه بظلال ومعان سامية. أمّا المعنى الحقيقي لهذا المصطلح، فهو ما نصطدم به في الواقع يوميّاً. إنّه ليس تلك الصورة التي تحيا في الخيال، بل هو الفعل الإنسانيّ ذاته، بقسوته وأنانيّته».
إلى جانب الأسئلة الكبيرة التي يسبر بطل الرواية غورها، هناك في المقابل شخصيات قد تبدو ثانوية، لكنها هي المجتمع برمته تجيب بطريقتها البدائية أحياناً والفلسفية أحياناً أخرى. تترك للقارئ هامشاً مناسباً ليتبنى إجابة السؤال التي تقنعه. وبذلك يتحدد مع من يريد أن يقف هذا القارئ المتورط في العمل بشكل أو بآخر. فلا ناجح ولا خاسر في العمل، بل هو اختبار بلا علامات، أي أنه يمكننا الإقرار بعد قراءة الرواية على المزاوجة التي حصلت بين كم كبير من الأسئلة وفضاء عيني غير محدود لخيارات متعددة تصلح كإجابات تبدأ بـ «لو». المزاوجة الأخرى في العمل نجدها بين العام كالحرب مهما كانت ذاتية أو عسكرية، والخاص المتعلق بتجربة البطل وما يربط بين الأمرين من هزيمة تؤثر على الفرد والمجتمع وتتأثر بهما.
في نقده الأدبي للرواية، قال الكاتب والناقد وليد أبو بكر: «رواية كفى الزعبي تحمل من العمق ما لا يجوز أن ينظر إليه بشكل سطحي: إنها رواية تعقد جدلاً بين أسطورتين شهيرتين، بينهما تناقض في النظر إلى الوجود الإنساني: ملحمة جلجامش، ببطلها الباحث عن الخلود، وأسطورة سيزيف، نموذج العبث. يُطرح هذا الجدل، عبر شخصيات مقننة، تنتمي كل منها حياتياً إلى هذا الاتجاه أو ذاك، أو تعلق بينهما، من خلال التأمل، أو التفكّر، في أسئلة الوجود الأساسية، التي تظل في الرواية أسئلة فقط، بعضها يناقض بعضها الآخر، ولا يدّعي أيّ منها معرفة كلية. إن أي اجتزاء منها، أو اكتفاء بمقطع من حوار، أو تركيز على ما تقوله شخصية ما، في موقف مأزوم ما، إنما يسيء إلى الفكرة العامة أولاً، وسوف يجد في الرواية ذاتها ما ينقضه».
ربما تكفي الإشارة إلى ما يرد على لسان إحدى الشخصيات، قريباً من نهاية الرواية، لتوضيح ذلك: فبعد حوار متشعب، بين أشخاص في أزمة وجودية، يقرّر أحدهم بكلّ ثقة: ما هذا الهراء الذي تقوله؟ أنت ببساطة شخص مهزوم تقول كلاماً لا تعرف عاقبته. السماء شيء مختلف تماماً عما تقول (ص 234). من هذا المنطلق، يمكن النظر أيضاً إلى سلوك الشخصيات المأزومة في الرواية، لتكون المحصلة أن الرواية لا تتماهى مع ما تقوله مثل هذه الشخصيات، أو تفعله، لأنها في مجملها لا تكون راضية عنه.
«شمس بيضاء باردة» واحدة من الروايات العربية النادرة التي لا تكتفي بسرد الحكاية، لكنها تسندها بالفكر الذي يتوالد من تأمل فلسفي عميق، وجاد، لا خفة فيه، ولا محاولة من أي نوع لابتزاز القارئ، أو استفزازه، ما يعطيها حقاً في أن يحتفى بها، وهو ما ستحصل عليه ذات زمن.




حوادث سابقة

سنوياً، تُمنع كتب في الأردن ولا ضجيج إعلامياً يثار حولها. أخيراً، حظيت روايتان باهتمام إعلامي نتيجة المنع، الأولى «حديث الجنود» لأيمن العتوم (صدرت عام 2014) التي تتناول أحداث جامعة اليرموك عام 1986 حين انتفض الطلبة داخل حرم الجامعة، مما أدى لسقوط قتلى وجرحى واعتقال عدد منهم عندما اقتحمت قوى الأمن حرم الجامعة في فترة كانت تسود المملكة الأحكام العرفية. ورأت سلطة الرقيب أن الرواية تمس بثوابت الدولة، وتظهر فيها إساءة للأجهزة الأمنية وتثير النعرات الطائفية، ولم يكتفَ بمنعها، بل بمقاضاة الكاتب والناشر.
الرواية الثانية لأحمد الزعتري «الانحناء على جثة عمان» صدرت عام 2014 وكان رأي هيئة الإعلام حينها أنّ الرواية «تدعو لقيام حرب أهلية في الأردن». وفي الواقع الأمر ما كُتب هو محض خيال لا أكثر!