على امتداد العقدين الماضيين، وتبعاً لأهواء المرحلة السياسية المتأرجحة بين انفتاح وتشدد، تعرضت وتتعرض السينما لحالات من الرقابة غير المبررة وغير المقبولة في لبنان (المسرح ملف آخر يستحق معالجة على حدة، ولو أن الحصار واحد). وقد خيضت معارك عدّة، وأثيرت نقاشات، باسم حرية التعبير. وكانت دائماً تتعالى أصوات، هنا أو هناك، للمطالبة برفع نير الوصاية السياسية والفكرية والأيديولوجية عن الفكر والابداع، تلك الوصاية التي تهدف في العمق إلى حماية النظام الطائفي والمافيوي، فيما تُمارَس غالباً بحجج وذرائع واهية: تارةً باسم «حماية القيم»، وطوراً لمراعاة حساسيات «الجماعات» التي يتألف منها وطننا الحبيب، وفي كل الأحوال «حفاظاً على السلم الأهلي»! ولم يشرح لنا أحد حتى الآن أي «استقرار» أهلي هذا الذي يمكن أن يزعزعه فيلم أو مسرحية. بين حين وآخر، كانت تقوم مبادرات وتحركات ظرفية، قصيرة النفس، على يد مبدعين وحقوقيين وإعلاميين ومنتجين ومعنيين بالحياة الثقافية، للمطالبة بإلغاء الرقابة المسبقة على الأعمال الفنية، على أن تحمي النصوص حقوق الجماعات والأفراد كما هي الحال في الأنظمة الديمقراطية التي تستند إلى دولة القانون. بل إن أكثر من وزير ثقافة أدلى بدلوه في النقاش، وتبنّى مبادرات ومشاريع قوانين ـــ كنا نشك في سرّنا في أن تفضي إلى أي مكان ـــ بهدف إخراج بيروت، «مختبر النهضة العربية» المزعوم، من جحيم القرون الوسطى. المشكلة أن نقمة النخب والمثقفين كانت تنصب غالباً على الأمن العام. وفي الأمر طبعاً شيء من التسرع أو الكسل أو التعسّف. فالموظفون الذين يتولون مهمات الرقابة في المديرية، لا يفعلون سوى تطبيق القانون كما يذكروننا دائماً. مع العلم أن هناك هامش تأويل ومبادرة بيد هؤلاء، كما كنا نذكر بدورنا، داعين في كل مناسبة للمراهنة على هذا الهامش، وتبني مبدأ صيانة الحرية ورفعها إلى أعلى سقف ممكن في جمهوريتنا العليّة. إلى أن جاء يوم أوحى فيه فاعل خير لرئيس الحكومة (سعد الحريري آنذاك)، باعادة تفعيل لجنة ينص عليها القانون هي «لجنة الرقابة»، لتخفيف الضغط عن المؤسسة الأمنية، وبالأخص عن السلطة السياسية التي تقف وراءها. هكذا، بدلاً من أن «تترحرح» الأمور لصالح الحرية، بات الوضع أكثر تعقيداً بالنسبة الى المبدعين والمبدعات، والمنتجين والمنتجات، والموزعين ومديرات ومديري المهرجانات الثقافية...
كنا في مواجهة ضابط أو مدير عام أو وزير، تمكن مناقشته ومحاولة اقناعه، والرهان على شجاعته وانفتاحه وعقلانيته، فصرنا أمام لجنة مبهمة، لا أحد يعرف معاييرها ومنهجيتها وخلفيات أعضائها باستثناء انهم يمثلون عدداً من الوزارات والأمن العام طبعاً. ليس الهدف الانتقاص من هؤلاء السادة طبعاً، ولا شك في أن لكل منهم خلفياته الفكرية والوطنية. المشكلة أن لجنة، ولو كان دورها استشارياً، تقرر ما يصلح أو لا يصلح للعرض على الشاشات في لبنان (وحتى في المهرجانات التي تتوجه للنخبة عادة)، يحق لنا أن نطلب منها المزيد! من المنطقي والصحّي والطبيعي أن يتمثل فيها المعنيون بالشأن العام، من أهل السينما والنقاد والمثقفين والحقوقيين وأهل الاختصاص، في مجالات التربية وعلم النفس والفلسفة والاجتماع، إلخ، ممن يصوغون وجدان الأمة ويسهرون على تماسكها وتقدمها.
على أي أساس نناقش اليوم «لجنة الرقابة» العتيدة هذه، وقد قررت أن فيلم آن ماري جاسر الجديد «واجب» يصب في خانة «التطبيع» مع العدو الإسرائيلي؟! ورفعت توصية إلى وزير الداخلية بعدم إجازة عرضه يوم 25 الجاري في ختام «ملتقى بيروت السينمائي»، ثم في الصالات اللبنانية. من هم هؤلاء الذين يخلطون بين فلسطين وإسرائيل، بين الوطنية والمكارثية، بين رفض أنسنة العدو، ومصادرة الخطاب الوطني المقاوم؟ كنا نتخيل كل شيء في وطن الغرائب والعجائب لبنان، سوى أن نضطر إلى كتابة مقالة لنقول لوزير الداخلية وللرأي العام من هي آن ماري جاسر، وماذا تمثل في السينما الفلسطينية والعربية؟ وما هو تاريخها الابداعي والنضالي. وكم تكبر بها وبأفلامها بيروت عاصمة المقاومة!
من العبث أن نجد انفسنا في هذا الموقف، ونروح نستعيد تمجيد المخرجة الفلسطينية للكفاح المسلّح طريقاً للعودة إلى فلسطين في «لما شفتك» (2012)، وتصويرها البليغ لمعاناة شعبها بين نكبة ونكسة في «ملح هذا البحر» (2009)، العملين اللذين نشك أن اللجنة سمعت بهما من قبل. هل ندافع عنها هنا كمن يدافع عن متهم بالخيانة؟ كيف صار اعضاء لجنة الرقابة الاجلاء نقاداً يحاكمون خطاب العمل وأسلوبه، ويصنفون التصوير في الناصرة خيانة قومية! هل سيمنعون من الآن فصاعداً أفلام هاني أبو أسعد وإيليا سليمان في لبنان بداعي «مكافحة التطبيع»؟ السادة الرقباء - النقاد باتوا يتدخلون في تأويل السيناريو، ويتعاملون مع فكرة صادمة جالت في خاطر شخصية معينة، وظفتها البنية الدرامية لإبراز جانب مؤلم من الواقع المعقد تحت الاحتلال، على أنها «رسالة إلى إسرائيل (!). من حسن حظ البشرية أن أصدقاءنا هؤلاء لم «يراقبوا» مسرحيات شكسبير وإلا لشطبوا نصف شخصياتها! آه من زمن نخوّن فيه آن ماري جاسر، ونطوّب زياد دويري بطلاً قومياً؟
كلا أيها السادة، لقد بلغ السيل الزبى. نعرف أن هناك أقلية من ليبراليّي الكرتون تريد أن تستغل معارك الحرية في لبنان من أجل اختراق وعينا الوطني وفرض «إسرائيل» كوجهة نظر. لكن هؤلاء لهم علاجاتهم، ولا بد من انشاء «مجلس أعلى لمكافحة التعامل الثقافي والأمني والأكاديمي والسياسي والاقتصادي مع إسرائيل». أما أن نسمح لغشاء الديماغوجية والأمية والخوف أن يحجب ذكاءنا، ويشوش وعينا، ويجعلنا عاجزين عن التفريق بين محمد وصالح بكري من جهة، وغال غادوت من جهة ثانية... أن يجعلنا نخلط بين الذات والعدو، بين الضحية والقاتل... فتلك مسألة أخرى. إذا لم يُعرض فيلم آن ماري جاسر في بيروت يوم 25 آذار، ونتمنى أن يكون وزير الداخلية في «متروبوليس» يومذاك في الصف الأمامي، فمعنى ذلك أننا خسرنا معركة أساسية، استراتيجية، في مواجهة العدو الصهيوني!