يجيد وضّاح خنفر الكلام للغاية. المدير السابق لقناة «الجزيرة» القطرية والمشرف العام على موقع «هافنغتون بوست عربي» لم يتوقّف عن الكلام طوال 12 دقيقةً، ليخبر الجمهور عن الموقع الجديد وأهميّته. خلال المؤتمر الذي بثّ في 27 تموز (يوليو) الحالي من لندن لإطلاق النسخة العربية من الموقع الشهير، كان الاعلامي الاخونجي ربّما يمهّد لموقعٍ يشبهه أكثر ممّا يشبه أريانا هافنغتون مؤسسة الموقع الأميركي وصاحبته (شكلاً على الأقل).
عربياً، يستنسخ الموقع نسخته الغربية. إلى جانب الخلفية البيضاء مع الشريطة الخضراء للأبواب، يتصدّره عنوان مكتوب بحروفٍ حمراء كبيرة، مذكراً بصفحات «المطلوبين» من قبل مكتب التحقيقات الفيدرالي الأميركي (FBI). هذا النسق في استخدام الألوان بدا غريباً للغاية وإن كان تبريره ممكناً: هناك نوع من التركيز على فكرة «أنا الكاتب» أكثر من فكرة «المؤسسة» المسيطرة عادةّ، ضمن الإيحاء للقارئ العربي بأنّه لا تسيطر على الموقع الوليد «طغمة الإعلام المعتادة»، بل الآراء «الحرّة» لكتّاب لا يعملون في «مؤسسة»، علماً بأنّ تلك «الطغمة» ترتع في الخلفية. خنفر مثلاً واحدٌ من أوائل المدراء في قناة «الجزيرة»، وأنس فودة (رئيس تحرير الموقع) كان مديراً في مجموعة mbc وفي موقع «العربية. نت»، وقِس على ذلك. من يَغُص أكثر في طبيعة «هافنغتون بوست عربي» يمكنه بسهولة ملاحظة الدمج بين «المحتوى التدويني»، و«الفكرة الأصلية» لمدوّنة «هافنغتون بوست». تعيد المدونة نشر تدوينات لآخرين، فضلاً عن نشرها لأخبار ومواضيع خاصة بها. لكن هذا بحد ذاته بدا «مشتّتاً»، وغير واضح، فظهرت المدوّنة «زائغة» الهدف أحياناً، و«متداخلة» المواضيع، فضلاً عن زحمة المواضيع غير المترابطة.
لا شك في أنّ المدونات لم تشهد رواجاً كبيراً في العالم العربي. وحتى لو فعلت، فقد بقيت ضمن إطارٍ محدد ولم تدخل حيّز التأثير الحقيقي والفعلي مقارنةً بمثيلاتها في الغرب. بقي مشاهير المجتمع بعيدين عن التدوين، ولم نسمع عن مسؤول ورئيس شارك في كتابة مقال أو كتب تدوينة. لكن «هافنغتون بوست» انطلقت في العالم العربي من حيث لم يسبقها أحد؛ إذ كتبت الملكة الأردنية رانيا العبد الله تدوينةً في يومها الأوّل. هذه الضربة الإعلامية، «حفّزت» نوعاً ما الجمهور العربي: «نستطيع أن نفعل ما لم يفعله غيرنا من قبل».
مهنياً، ينقسم الموقع إلى تسعة أقسام، ما عدا الصفحة الأولى. يفترض أنّ تتصدّر هذه الصفحة عناوين تهم العالم العربي، لكن بعد يومين من المتابعة، تبيّن أنّها لا تزال تدور في فلك طرف معيّن من الإعلاميين/ صناع الإعلام/ المشاهدين. لم يختفِ نفس الإخوان المسلمين ولا «الجزيرة» ولا حتى «العربية» عن المدوّنة/ الموقع. باختصار، لم يخرج المحتوى حتى اللحظة عن الإطار المعتاد للقنوات المموّلة خليجياً، وإن أضفنا قليلاً من بهارات التدوينات وتلوينة النجوم ورشّة من الـ «سي. أن. أن». العداء لنظام الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي واضح من خلال العنوان العريض المكتوب بالأحمر: «من وراء الشمس». المحتوى المنضوي تحت هذا العنوان يتحدّث أنّه «وراء أسوار السجون التي تغيب عنها الشمس توجد حياة، في مصر»، إضافة إلى وجود «40 إلى 60 ألف معتقل على أرضية سياسية... بعضهم شهير وكثيرون مغمورون». علماً بأنّه في المملكة السعودية مثلاً، هناك عدد كبير من معتقلي الرأي، فهل تفرد «هافنغتون بوست عربي» يوماً ما مساحة مشابهة للتطرّق إلى هذا الموضوع؟

لم يخرج المحتوى حتى
اللحظة عن الإطار المعتاد للقنوات المموّلة خليجياً

ضمن المنطق نفسه، بدت تغطية الموقع لخبر استشهاد الصحافي ثائر العجلاني غريبة، خصوصاً أنّه يطرح نفسه كمنصة تضم كل الآراء. عنون «هافنغتون بوست عربي»: «مقتل أشهر مراسل حربي موالٍ للنظام السوري»، فيما برزت تدوينة من تويتر حول هذا الموضوع مأخوذة عن صفحة «سوريا تتحرّر» تحت عنوان «نفوق الإعلامي الشبيح المشهور». هنا، يأتي السؤال المنطقي: لماذا اعتماد صفحة «سوريا تتحرر» كمصدر؟ أليس هناك صفحات إعلامية «محايدة» يمكن اللجوء إليها في هذه الحالات؟ إلا إذا كانت هناك نيّة في استثمار هذا الخبر للهجوم على النظام السوري. وعلى خطى «الجزيرة» و«العربية» وسواهما، يُستعمل تعبير «تنظيم الدولة الإسلامية».
على ضفة الفن، نلاحظ قلّة المواضيع وشبه غياب للحصرية حتى اللحظة، إضافة إلى أخطاء اعتدنا عليها في المواقع الفنية العربية. مثلاً، تحتوي الصفحة الفنية خبراً عن انضمام «المسلمة «كامالا خان» إلى أبطالها الخارقين»، لكن المقصود في الحقيقة هو شركة «مارفل» التي أوجدت شخصية «ميس مارفل» بأصول هندية مسلمة. لم تعرف الكاتبة إيمان نبيل أنّه رغم امتلاك «ديزني» لـ «مارفل»، إلا أنّها لا تتدخل في سياستها الإنتاجية.
في صفحة «لايف ستايل» نلمس للمرّة الأولى مواضيع غير مألوفة من قبيل «كيف تحسن استغلال الانقطاع الكهربائي». لكن بطبيعة الأحوال وعلى عادة الإعلام الممول خليجياً، تبدو السطحية شديدة، إذ جاءت النصائح على شاكلة: «إقرأ كتاباً، اقضِ وقتاً مع العائلة، اخرج مع اصدقائك، نظف المنزل، أو استرخ!».
أما في ما يتعلّق بالتكنولوجيا، فيبدو أنّ الموقع الجديد أصيب بـ «حمى» تقليد الغرب والتكرار. في المقابل، تأتي صفحة «مبدعون» مزيجاً جديداً وغير معتاد في الإعلام العربي عموماً. تضم ما يمكن اعتباره «نجوم» الإنترنت في الوطن العربي. أولئك الذين يقومون بتصوير ــ ما يعتقد أنّه ــ مسلسل ويب (web series). هذه الفيديوات تصوّر بكاميرا عادية وغالبيتها ذات طابع كوميدي انتقادي (بعضها القليل سياسي)، وهي تنجح في استقطاب شريحة واسعة من الناس كونها تتحدّث بلغتهم وعن مشاكلهم. لكن تعيبها السطحية وعدم تقديم حلول من أي نوع في كثيرٍ من الأحيان. باختصار؛ تبدو تجربة «هافنغتون بوست عربي» غير «واعدة» البتة إذا استمرت على هذا المنوال. حديث وضّاح خنفر عن أنّها احتاجت لعامين كاملين لكي «تنضج» وتخرج إلى العلن مثير للدهشة، فموقع مماثل لا يحتاج إلى كل هذا الوقت. الأخطاء الموجودة فضلاً عن عدم الابتكار والاختلاف... كلها تجعلنا نسأل: هل هذا كل شيء؟ ومن نافل القول إنّه لولا الضجة الإعلامية حول الموقع، والاسم الشهير الذي يحمله، فضلاً عن الشخصيات الشهيرة التي نشرت بعض التدوينات فيه، لما عرف أحدٌ به.




نسخة مفذلكة

تغص النسخة العربية من «هافنغتون بوست» بـ «الفذلكة» الإعلامية لأنّه يريد أن يوحي للقارئ بأن من يكتب هذه المقالات لا يتميّز بالحرفية التي تميّز الإعلام الكلاسيكي. تبدو النصوص مهزوزة بعض الشيء. وأبرز مثال على ذلك «الزوجة السورية تهدد عرش المصرية» الذي حمل توقيع المدونة المصرية نجوان الليثي. هذه الأخيرة استخدمت بلغة أقرب إلى الانترنت منها إلى المقال التقليدي، فضلاً عن سخافة المضمون وسطحيته. ويمكن لهذا المقطع أن يبرهن قصدنا: «من المسلّمات أنّ الرجل المصري يشعر دائماً بوسامة غير طبيعية وجاذبية خارقة توقع النساء في حبه من النظرة الأولى، ولذلك فمن حقه أن يرتبط بامرأة جميلة تصلح لأن تكون ملكة جمال الكوكب والمجرّة بأكملها، قد تكون هذه المرأة سورية... مغربية... روسية أو فرنسية أو غيرها... المهم أن تكون امرأة جميلة تليق بوسامته». بالتأكيد، لا مشكلة في أن نستعين بمدوّنات الآخرين المنتشرة على الشبكة العنكبوتية، لكن أن نعطيها أهمية وننشرها في «موقع مدوّنات» بهذا الحجم يقودنا إلى حجم «التسخيف» القادم من خلف «هافنغتون بوست عربي».