تفتح إليانور عينيها لتجد نفسها أمام رجلٍ شعره أبيض يخبرها أنها قد ماتت، وها هي الآن في «المكان الجيّد». لا يمرّ وقتٌ طويل قبل أن تكتشف أن هناك خطأ ما جعلها تحلّ محلّ فتاة أخرى. فإليانور كانت شخصاً «سيئاً» على الأرض، وقد نالت مكافأة على أساس أنها شخصٌ آخر. ما العمل الآن؟ تجد البطلة ضالتها بأستاذٍ للفلسفة تطلب منه أن يجعلها «إنساناً أفضل» كي تستحق مكانها في عالم الأبديّة.يتمحور مسلسل «The good place» الذي أنتجته «نتفليكس» حول فلسفة الأخلاق وأعلامها الأساسيين. نسمع على مدى موسمين إشارات كثيرة إلى أرسطو، كانط، هيوم وبنتهام، وغيرهم ممن وضعوا نظريات في هذا المجال. يعبُر العمل الكوميدي الذي حافظ على حبكة «خفيفة» على رغم كثرة الانقلابات فيها، بين مدارس أخلاقية عدّة أثناء رحلة تعليم إليانور كيف تصبح شخصاً «أخلاقياً»، ويمرّ على ثيمات فلسفية عدّة، كما يتطرّق إلى الفرق بين النظرية والتطبيق في مجال الأخلاقيات. بدءاً من الأرسطية، مروراً بالكانطية والنفعية، يصل المسلسل إلى «معضلة الترام» (Trolley problem) التي يجسّدها المسلسل في إحدى الحلقات، مبيّناً صعوبة القرار الأخلاقي (بين أن تدع الترام يكمل مساره على سكة الحديد حيث يقف خمسة أشخاص، أو أن تعدّل مساره إلى سكة أخرى، فتقتل شخصاً واحداً). ولعلّ أهم سؤال ممكن أن يطرحه المشاهد من هذه القصة، هو ما إذا كانت الأخلاق كما نعرفها، بمدارسها المتعددة، تنطبق أيضاً على أشخاص قد يعيشون «خارج هذا العالم». بمعنى آخر، هل تظلّ تلك النظريات وقواعد السلوك تسري في ظلّ شرطٍ إنساني مخالف لما نعهده، وفي حياة لا موت فيها؟
الفلسفة الوجودية كذلك حاضرة في المسلسل، وأحد أطرف المواقف التي تشهدها القصة هي اختبار مهندس «المكان الجيّد»، مايكل (في إحالة على ميخائيل رئيس الملائكة في العقيدة المسيحية)، أزمةً وجودية، بعد أن يكتشف تساؤلات فلسفية بديهية. وفي إحدى الحلقات تصل الأحداث إلى خلاصة سارتر الشهيرة في مسرحيته «خلف الأبواب المغلقة»، حين يكتشف الأبطال أن مايكل يعذّبهم من خلال بعضهم البعض: «الجحيم هو الآخرون».
من اللافت أن نجد عملاً من هذا النوع على «نتفليكس». أعمالٌ تلفزيونية كثيرة بالطبع، تنطوي على ثيمات فلسفية، «True detective»، «Black mirror»، وعشرات الأمثلة إلى جانبهما. ولكن لعلّها المرة الأولى التي نشاهد فيها مسلسلاً يورد النظريات كما هي مرفقةً بأسماء واضعيها بهدف «التعليم». فالفلسفة في العادة، ضيفٌ ثقيلٌ على الثقافة الشعبية (Pop culture) التي تفضّل الهرب من تعقيداتها. ولكن في الآونة الأخيرة، يبدو أن هناك اتجاهاً على «الشاشة الصغيرة»، لا سيما عبر شبكة «نتفليكس» نحو التطرّق إلى هذا النوع من المعالجات. في هذا الإطار أيضاً، يمكننا أن نشاهد في الموسم الثالث من المسلسل الكوميدي «Unbreakable Kimmy Schmidt» حلقة عن «معضلة الترام»، إضافة إلى تلميحات كثيرة للفلسفة الإغريقية.



الفلسفة في السينما
لكن إذا كان استخدام الفلسفة بأسلوبٍ مباشر، أمرٌ طارئ على الشاشة الصغيرة، فإنه حتماً ليس جديداً على السينما. في الأساس، يصعب فصل الفلسفة عن السينما. يقضي طلّاب الفلسفة ساعات طويلة خلال دراستهم في تحليل أفلام، استناداً إلى نظريات فلسفية، إلى جانب أخرى في التحليل النفسي بالطبع. المهمة ليست سهلة، ففي أحيان كثيرة، يستخرج المشاهد من الفيلم أفكاراً وتطبيقات لنظريات، لم يكن المخرج قد فكّر فيها فعلاً. ولعلّ أطرف توصيف لما يحدث في هذه العملية، هو ما قاله وودي آلن ردّاً على سؤالٍ عن رأيه في تحليل أفلامه من قبل الأكاديميين: «(...) لا أعني أن ملاحظات المعلمين خاطئة، ولكني لم أقصدها، ففي كثير من الحالات تحدث هذه الأمور في صناعة الأفلام عن طريق الصدفة البحتة (...) أقوم بتغيير المعاني سِت مرات داخل الفيلم الواحد كي يعمل، أعتمد على كل أداة يمكنني من خلالها صناعة الفيلم. وعندما أنجح تُكتب الدراسات، ويتم تعليمه في الصفوف الدراسية، ويجدون به ذلك المعنى. هذا أمر رائع، إنه يسيّر عجلة كسب الأرزاق التي تضم الجميع... أنا، والمعلمون، ومن ينشرون الدراسات، جميعنا فقط نشغل أوقاتنا حتى نتقدّم بالعمر».
لكن على رغم ذلك، فإن الفلسفة نادراً ما زارت السينما «لحماً ودماً»، فالأفلام التي تدرج الفلسفة بشكلٍ مباشر، لا تلميحاً في قصتها، لا تزال قليلة على الشاشة الكبيرة. لعلّ أفلام أندريه تاركوفسكي، وكريستوف كيشلوفسكي، إريك رومر، آلان رينيه، إنغمار بيرغمان وغيرهم، هم أشهر المخرجين (خارج هوليوود) الذي حمّلوا أفلامهم ثقلاً فلسفياً، في مسار الأحداث وحتى في الحوارات.
لكننا سنكتفي هنا، انطلاقاً من مسلسل «نتفليكس» المذكور، بالحديث عن ثلاثة أمثلة لأفلام من هوليوود جسّدت صورة أستاذ الفلسفة وانطلقت من هذه الصورة لتناول ثيمات فلسفية كبرى.
()

سقراط يموت مرتين
«ذلك كان مقصد لاكان، على تخيلاتنا أن تكون غير واقعية، لأنك في اللحظة التي ستحصل فيها على ما تريده، لن تستطيع أن ترغب به مجدداً. كي نواصل العيش، على الرغبة أن تجد موضوعها غائباً دائماً. فأنت لا تريد هذا الشيء/ الموضوع، بل تريد تخيّله. إذاً، الرغبة تدعم تخيلات غير معقولة، هذا ما يقصده باسكال عندما يقول إننا نكون سعداء حقيقةً فقط عندما نتخيّل سعادتنا المستقبلية. لذلك نقول احذروا مما تتخيلنوه أو تتمنونه، ليس لأنك سوف تحصل عليه، بل لأنك عندما تحصل عليه، لن تريده بعد ذلك. درس لاكان هو أن الحياة مع الرغبات لن تجعلك سعيداً، ما يعنيه أن نكون إنسانيين بشكلٍ كامل هو أن نقوم بجهدٍ للعيش مع الأفكار والمُثُل، وألا نقيس حياتنا بما حققناه على صعيد الرغبات، بل بلحظات النزاهة، والتعاطف، العقلانية، وحتى التضحية بالذات، لأنه في النهاية، تكمن أهمية حياتنا في إعطاء قيمة لحياة الآخرين».
مثلما مشى سقراط إلى موته دفاعاً عن فلسفته، يمشي ديفيد غايل (كيفن سبايسي)، أستاذ الفلسفة في جامعة تكساس، نحو المصير ذاته مدافعاً عن قضية اختار النضال لأجلها، وهي إنهاء عقوبة الإعدام. «حياة ديفيد غايل» (إخراج آلان باركر، 2003)، يُبرِز في شكل لا لبس فيه ثيمة «الفداء»، مستعيراً صورة سقراط الذي يمرّ ذكره مرات عدّة في الفيلم. ولا عجب في ذلك حين نعلم أن كاتب سيناريو الفيلم هو الأستاذ السابق للفلسفة، رودولف راندولف.
«أين يكون الأثينيون عندما تحتاج إليهم؟»، أخذ ديفيد يصيح في المارة وهو سكران. تنبّأ الرجل بمصيره في هذا المشهد، بعدما شهد حياته تهوي أمامه. لُفّقت له قضية اغتصاب تلميذة، أدّت إلى طرده من الجامعة، زوجته هجرته وسافرت مع ابنهما، فلم يبقَ أمامه سوى المضي إلى النهاية في برهنة موقفه من قضية الإعدام.
يُتهم الرجل باغتصاب وقتل صديقته وزميلته في التدريس وفي النضال، كونستانس (لورا ليني)، وتبدو كل الأدلّة ضده. تحاول الصحافية بتسي (كيت ونسليت) إثبات براءته، وحين تعثر على دليلٍ سينقذه من حبل المشنقة، يؤخّرها حادث عن الوصول إلى السجن، فيموت غايل لإثبات إمكانية إعدام غير المذنبين. قبل تنفيذ حكم الإعدام يخاطب ديفيد بيتسي قائلاً: «نعيش حياتنا كلها فيما نحاول أن نوقف الموت. نأكل، نخترع، نحب، نصلي، نحارب، نقتل. ولكن ما الذي نعرفه عن الموت؟ فقط أنّ أحداً لا يرجع منه. ولكن نصل إلى لحظة في حياتنا، حيث تنتصر الروح على الرغبة، وحيث تفوز عاداتنا على أحلامنا... قد يكون الموت هبة، من يدري؟». هذا الكلام يذكّرنا بمرافعة سقراط أثناء الدفاع عن نفسه في أيامه الأخيرة: «إذا كان الموت هو الحرمان من كل شعور، نعاسٌ بلا أي فكرة، إنها فرصة رائعة أن نموت!» (في كتاب «دفاع سقراط» لأفلاطون).



«جماليّات» الجريمة الكاملة
«دع إرادتك تقول: الانسان الأعلى سيكون معنى العالم. الإنسان هو حبلٌ مربوطٌ بين الحيوان وبين الانسان الأعلى، حبلٌ فوق هاوية. ما هو عظيم في الإنسان أنه جسر وليس نهاية» («هكذا تكلم زردشت»، نيتشه). يوحي فيلم «Rope» (ألفرد هيتشكوك، 1948) أنه جرى اختيار اسمه من الجملة المذكورة لنيتشه، على الرغم من أن للحبل دلالة في الفيلم، فهو ما يستخدمه الشابان براندون وفيليب (جون دال وفارلي غرانجر) لتنفيذ جريمتهما في قتل صديقهما ديفيد. يريد الشابان العشرينيان أن يصلا إلى نموذج «الإنسان الأعلى» النيتشوي (Übermensch) الذي لا يخضع للمفاهيم الأخلاقية التي يخضع لها بقية البشر. «الخير والشر، الصح والخطأ، تم اختراعها للإنسان العادي، الإنسان الأدنى، لأنه يحتاجها»، بحسب ما يقول براندون، المحرّض الأساسي على الجريمة. غير أن انتقادات وجهت للفيلم في حينه (1948)، اعتبرت أن هذه المعالجة هي إساءة لفهم «الإنسان الأعلى» عند نيتشه. فالإنسان الأعلى بالنسبة إلى الفيلسوف الألماني، ليس بحاجة إلى القيام بجريمة أو إلى التحكم بحياة الآخرين. «فالإنسان الأعلى لا يكون متفوقاً على الآخرين فقط، بل هو متفوق على الإنسان كما نعرفه».
إلى جانب السعي للتفوّق المطلق، يرى براندون وفيليب أن الجريمة «فنٌ»، في استنادٍ من الفيلم المقتبس من مسرحية تحمل الاسم نفسه مأخوذة بدورها عن قصة حقيقية شهدتها شيكاغو، إلى نظرية الكاتب الإنكليزي توماس دي كوينسي عن انتماء الجريمة الكاملة إلى الفنون الجميلة. بعد أن يقتلا صديقهما المسكين، يضع براندون وفيليب الجثة في صندوق خشبي موجود في صالة الشقة، ويقول الأول: «القتل يمكن أن يكون فناً أيضاً. القدرة على القتل يمكن أن تكون مرضية كالقدرة على الخلق». احتفالاً بتفوقهما على الآخرين وبـ«جماليات» جريمتهما، يدعو الشابان أصدقاءهما إلى حفلٍ في الشقة التي تدور فيها كل أحداث الفيلم، ومن بينهم والد الضحية وعمّته، كما يضعان الطعام فوق الصندوق الذي يحتوي جثة ديفيد. غير أن الحظ سيخذلهما، حين سيكشف أستاذ الفلسفة روبرت كاديل (جايمس ستيوارت) أمر الجريمة، علماً أن المجرمين اعتقدا أنه «سيتفهمهما» بما أنه من مؤيدي فكرة نيتشه. لكن روبرت يشرح لهما بغضب أن الدفاع عن هذا المفهوم لا يعطي الحق لأحد كي يعتقد أنه إلهٌ وينهي حياة «من هم أدنى» منه.



دُوار الحرية
إيب لوكاس، أستاذ فلسفة (خواكين فينيكس) يختبر أزمة وجودية تجعله عاجزاً عن الكتابة والجنس، والحياة عموماً. يستعير فيلم «The irrational man» (وودي آلن، 2015) من الفلسفة الوجودية، إشكالية «القرار». فالإنسان، «المحكوم عليه بأن يكون حرّاً»، بحسب جملة سارتر الشهيرة، يجد نفسه أمام هذه الحرية المطلقة في قلقٍ لا متناهٍ. «القلق هو دوار الحرية»، ترد عبارة كركيغارد، على لسان بطل الفيلم. هذا الأخير سيجد معنىً لحياته أخيراً، بعد أن يستمع صدفةً في مطعمٍ إلى حديث امرأة على الطاولة المجاورة تشتكي من لا أخلاقية قاضٍ ما، ستُخسرها حضانة إبنها. يقرر إيب، أن يقتل القاضي، إذ إن العالم «سيصبح مكاناً أفضل من دونه». هكذا، يخطط لجريمته في شكلٍ كامل، وينفذها ذات صباح بعد أن يدسّ السم للقاضي في العصير.
المخاطرة، «القرار الأخلاقي»، الشعور بأنه أثّر إيجاباً في حياة شخصٍ ما، كلها أمور جعلت لحياة إيب معنىً، وأعادت له الحماسة للعيش والكتابة والحبّ. يعتمد الفيلم على كليشيهات نعهدها في أفلام آلن، لكن على رغم ذلك، يمثل مدخلاً لبعض الأسئلة الفلسفية، لا سيما تلك المتعلّقة بالفلسفة الأخلاقية والوجودية. بمعنى آخر، يضيء نوعاً ما على «ما يجب فعله» مقابل «ما يمكن فعله»، في حياةٍ مفتوحة على احتمالات لا تُحصى.