حين أنجز المفكر الهندي بارثا تشترجي كتابه «الفكر القومي والعالم الاستعماري» في منتصف ثمانينيات القرن المنصرم، كان يضع نصب عينيه التجربة القومية في الهند نموذجاً. تبيّن له لاحقاً أنّ ما يصحّ على الهند، يمكن تعميمه على البلدان ما بعد الاستعمارية، وخصوصاً بعد اطلاعه على أعمال ألبرت حوراني، وأنور عبد الملك، وإدوارد سعيد، وجوزف مسعد، في ما يخصّ القومية العربية. في مقدمة الطبعة العربية للكتاب (دار قدمس - ترجمة عدنان حسن)، يشير بارثا تشترجي إلى أن أطروحته على صلة ما بأوضاع القوميات الأخرى، لجهة العداء للاستعمار، في المقام الأول، وصعود الفكر الليبرالي في بعض الأقطار العربية، ويستدرك قائلاً بأنّ «اللحظة الحرجة» وعبورها نحو الدولة القومية، تحتاج إلى فهم أفضل، في ضوء الانتفاضات الأخيرة في العالم العربي ضد الأنظمة الاستبدادية، معوّلاً على «الشكل الغاندي في المقاومة والعصيان المدني»، إذ ينبغي الحذر من الانزلاق إلى الفوضى، فـ«الخوف من عدم وجود دولة، ليس أقل واقعية من الدولة القمعية»، وتالياً، هناك خوف من الثورة المضادة.

هذا ما يسوّغ عودة الحكم الاستبدادي بذريعة الحفاظ على الدولة ذاتها من أعدائها، في دورة مكرّرة، وإذا بالدولة القومية «ضحية لهذا الديناميكية الشريرة». يرى هذا المفكر أنّ ما حدث عربياً «مأسوي وتدميري»، فالدول المبنية على الخوف لا تفسح الطريق بالضرورة للدول السلمية والمتناغمة التي تخلفها، ولا يجد حلّاً إلا عبر تطوير تقنيات جديدة للمقاومة، من دون أن تدخل في دورة العنف، والعنف المضاد، بحيث تصبح تلك التقنيات جزءاً من ثقافة سياسية شعبية متاحة للجميع، في مقدمتها العصيان المدني.
خلال بحثه عن الخصوصية القومية للعالم الثالث، يشير إلى أنّها عالقة بين النظرية الليبرالية والنظرية الماركسية، ذلك أنّ المنظّرين الغربيين شددوا على سلطة العقل وأولوية العلوم البحتة وغلبة المنهج التجريبي، بناءً على فرضيات مسبقة، أرادوا تطبيقها على الآخرين، بتأثير التعليم الغربي، فصدّروا مفاهيم القومية الأوروبية على الشعوب اللاغربية، بقصد إيذاء رؤاها الخاصة إلى العالم، إن لم يكن لهدمها. وبدلاً من أن تشرع هذه القوميات في تأكيد تحرّرها من الهيمنة الأوروبية، وقعت في أسر الخطاب العقلاني لما بعد عصر التنوير الأوروبي. في حالة الهند، يبرز بارثا تشترجي كيف أحدثت النزعة القومية الهندية إزاحات هامة في إطار التفكير الحداثوي بصيغته الغربية، من دون أن تتخلّص هذه النزعة المختلفة من هيمنة بنية السلطة التي سعى إلى التخلص منها؛ فقد كانت الحصيلة التاريخية، هي تحويل النزعة القومية من الطبقات الحاكمة إلى إيديولوجيا دولة، وانتحال حياة الأمة عبر التحديث الشامل، ما أدى عملياً إلى فشل الدولة في إدراج حياة الأمة إدراجاً كاملاً في حياة دولها الجديدة. في المقابل، أتاح هذا الواقع الإمكانية التاريخية لنشوء نقد النزعة القومية للدولة. هكذا اعتمد منظّرو النهضة الهندية على تصوّرات غرامشي للدولة بوصفها «إكراهاً + هيمنة» في ضوء تطلعات طبقة جديدة إلى توكيد قيادتها الفكرية - المعنوية، على أمة هندية آخذة في التحديث والمراهنة على حقها المزعوم في السلطة. لكن الوقائع أثبتت عكس ذلك، نظراً إلى هشاشة الأسس التي بنيت عليها هذه الأفكار بوجود اقتصاد استعماري ونظام حكم مستوحى من القوانين الغربية، أو وفقاً لما يقوله إدوارد سعيد في «الاستشراق»، فإنّ عصر ما بعد التنوير ألحق الشرق بالإمبراطورية الغربية، باختلاق حقل معرفي منظومي هائل، تمكّنت به الثقافة الأوروبية من إدارة وحتى إنتاج الشرق سياسياً وإيديولوجياً وسوسيولوجياً وتخيّلياً. وينبّه تشترجي إلى تناقض متأصل في التفكير القومي «لأنه يجادل ضمن إطار من المعرفة تنطبق بنيته التمثيلية على بنية السلطة ذاتها التي يسعى الفكر القومي إلى التبرؤ منها»، مميّزاً بين «الثيمي» (الموضوع)، والإشكالي، أو بين اللغة والكلام، حسب القراءة البنيوية للنصوص القومية، وهو بذلك لا يدّعي إنتاج نظرية جديدة في تفسير الإيديولوجيا القومية، بل فحص التصدعات ونقاط التوتر والقوى المضادة والتناقضات على سطح هذا الخطاب، في ثلاثة مستويات معرفية هي: «لحظة الانطلاق»، و«لحظة المناورة»، و«لحظة الوصول»، متوقفاً عند ثلاث محطات أساسية في تاريخ الهند: الثقافة والسلطة في فكر بانكيمتشاندرا، وغاندي ونقد المجتمع المدني، ونهرو والثورة السلبية.
تتلخص أفكار بانكيمتشاندرا في أنّ المطلوب هندياً، في لحظة انطلاق المشروع القومي - الثقافي، هو «خلق مثل ثقافي يمكن فيه تعلّم صناعات الغرب وعلومه ومحاكاتها، مع الاحتفاظ في الوقت نفسه بالعظمة الروحية للثقافة الشرقية». على هذا الأساس، تصبح النخبوية ضرورة ملحّة لتأصيل التكوين الثقافي الذي تقوده الانتلجينسيا، وتنقاد فيه الأمة.
بمعنى آخر، إنّ الشكل المميّز للفكر القومي في لحظة انطلاقه «يولد من صدام الوعي الوطني مع هيكل المعرفة المفروضة عليه من الاستعمار»، فيما يمكن قراءة أفكار غاندي في «لحظة المناورة» على أنها نقد لفكرة المجتمع المدني، وإدانة للحداثة التي دمّرت الخصوصية المحليّة، فهو ينبذ كل الاعتراضات التاريخية على مشروعه لتحرير الهند «ليس بقوة السلاح بل بقوة الروح»، ذلك أنّ الحقيقة ــ وفقاً لغاندي ــ لا تكمن في التاريخ، ولا يمتلك العلم أي وسيلة للوصول إليها، فالحقيقة أخلاقية في المقام الأول. في توصيفه للغاندية، يؤكد تشترجي أنّها مثال آخر على رد فعل الإنتلجينسيا الأنموذجي على الاستلابات الاجتماعية والأخلاقية للرأسمالية المتقدّمة، وصولاً إلى فكرته المركزية «علم اللاعنف». في «محطة الوصول»، نلتقي أفكار جواهر لال نهرو التي أودعها في كتابه المهم «اكتشاف الهند». الكتاب إعادة هيكلة لبنى المجتمع الاقتصادية للوصول إلى دولة قومية ذات سيادة، في حال قيامها «ستقف فوق المصالح الضيّقة للجماعات والطبقات في المجتمع، وتتخذ رؤية إجمالية للمسألة، وفقاً لأفضل الإجراءات العلمية، وتخطط وتوجه السيرورات الاقتصادية».
يخلص تشترجي إلى أنّ الخطاب القومي يحمل علامات صراع الدولة القومية في معركة ناقصة غير موجَّهة وغير متكافئة ضد قوى سعت إلى السيطرة عليها، وتالياً، إن نقد الخطاب القومي «يجب أن يجد لنفسه الوسيلة الإيديولوجية لربط القوة الشعـبية لتلك الصراعات بوعي العالمية الجديدة، ولحرف النزوع الايديولوجي للدولة التي تدّعي كذباً، أنها تتكلم بالنيابة عن الأمة، ولتحدي السيادة المزعومة لعلم يضع نفسه في خدمة رأس
المال».