تُعيدنا رواية فينوس خوري - غاتا «سبعة حجارة للخاطئة» (2007) التي انتقلت إلى المكتبة العربية عن «دار الساقي» (ترجمة سميرة بن عمو)، إلى الروايات الاستشراقية الثنائية اللون التي انتشرت في القرنين التاسع عشر وأوائل القرن العشرين. لا مكان للرمادي في الصراع بين الشرق والغرب. سيرحل الغرب يائساً من هذا الشرق «المتخلف»، تاركاً خلفه مشروعاً «تنويرياً» مجهَضاً، وبلاداً لن تنتج إلا الإرهاب والدم... و«الخوف». «خوف» هي القرية التي قررت بطلة رواية «سبعة حجارة للخاطئة» السفر إليها كمنفى طوعي بعد تخلي حبيبها عنها وموت قطها. مع قرية مجهولة الجغرافيا وبطلة مجهولة الاسم، تمضي بنا الكاتبة الفرنكوفونية لنخوض مغامرة في الشرق، تروي لنا فيها قصة «نور» المحكومة بالرجم بعد اغتصابها وحملها من مهندس أميركي يشرف على بناء سد يجاور القرية. تندفع «الغريبة» (الاسم الذي ستحمله بطلة الرواية) في محاولة يائسة لإنقاذ «نور» من هذا المصير، وتحوّل دورها التطوعي في حملة إغاثة أوروبية إلى رحلة مضنية لنصرة «نور» وجنينها.
تطرق أبواب الجمعيات النسويّة والوزير المختص بالشؤون الدينية، وصولاً إلى الملا الذي يمنحها تأجيلاً للرجم لغاية موعد الولادة. خلال تفاصيل هذه الرحلة بين القرية والعاصمة، نتعرف إلى شخوص الرواية من رجال دين جاهلين، و«نسويّات» ساذجات معتمدات على دعم المؤسسات الغربية، وسكان القرية الغارقين في الفقر والجهل وجحيم الصحراء، و«الدكتور بول» ومساعده «كونزاكيس»، وهما الطبيبان الأوروبيان المنضويان في حملة إغاثة صحية للقرى المشابهة، وانتهاء بشخصية «أمينة» التي تساعد «الغريبة» في عملها الذي يتحول بعد رحيل بعثة الإغاثة إلى تدريس أطفال القرية بدعم من «المؤسسة الكاثوليكية».
يمكن إدراج هذه الرواية ضمن تصنيفين: الأول هو «الروايات النسويّة»، من حيث إفراد البطولة لشخصيات نسائية تدافع بشراسة ضد تقاليد تمارس انتهاكات شتى بحق المرأة. أما الثاني، فهو «الروايات الاستشراقية»، حيث نرى البون الشاسع بين «طيبة» الغربيين وحسن تدبيرهم للأمور ورهافة عواطفهم (باستثناء واحد أو اثنين) مقابل «غباء» سكان القرية وجهلهم وذكوريتهم الصارخة. ويمكن قارئ الرواية تلمّس هذا العنصر الأخير الحاضر بقوة في السرد، حتى في الصفحات التي بدا كأنّ خيوط الشخصيات بدأت تفلت من يد الكاتبة، حيث يسود بعض الملل في الفصول التي تشكّل منتصف الرواية، وصولاً إلى ما قبل نهايتها التي قد نشعر كأنها غريبة للوهلة الأولى. لكننا نكتشف أنّها النهاية المنطقية الوحيدة لرواية تقيم فصلاً حاداً بين الشرق «الجاهل» والغرب «الحضاري» في فصول كاملة وعبارات متفرقة تحمل عنصرية لا لبس فيها، حيث «يحمل الغرب ثقل العالم على ظهره»، وهي جملة لا ترد على لسان شخصية من شخصيات الرواية، بل تعبّر عن وجهة نظر الكاتبة التي اختارت ضمير المخاطب في سرد الأحداث.
بعيداً عن العبارات التي قد تبدو منتزعة من سياقها، نلاحظ أن ثمة عنصراً استشراقياً واضحاً في السرد الذي يتشظى في ثنائية الشرق - الغرب في صراعهما الجديد «مابعد الكولونيالي». الغرب مميَّز ومحدَّد في تصنيفات واضحة، رغم وقوعها في التنميط (برود فرنسي، دفء عواطف إيرلندي، وعجرفة أميركية، فيما يبدو الروس خلفية لمشهد الحرب التي سببوها). أما الشرق فهو كيان موحد الشكل والمضمون والتفاصيل. «خوف» تنطبق على أي قرية شرقية في الامتداد بين آسيا الوسطى، وصولاً إلى المغرب العربي. والسكان هم ذاتهم بعاداتهم البالية، وذكوريتهم الطاغية، والأهم رفضهم لنعم «الحضارة» الغربية، «حضارة الرجل الأبيض» بالضرورة. ينسحب هذا التوصيف على مجمل الرواية التي تريد كاتبتها القول لنا ببساطة إنّ «الشرق شرق والغرب غرب»، حيث تعود «نور» (بعد هربها وولادتها) إلى «خوفها» بعدما تحررت من الدم الغربي (الأميركي) الفاسد الذي علق بها واستبداله بدم أصيل، بعد تخليها عن «رواسب الغرب» فيها، أي ابنتها التي أعطتها للغريبة لتعود بها إلى فرنسا، كما عاد جميع الأوروبيين (مثل «الدكتور بول» الذي أنهى «تطهره» في الشرق الإكزوتيكيّ بعد سنوات على وفاة ابنته)، ليتركوا هذا الشرق ليتقاسمه السكان المحليون الذين سيلدون المجاهدين الإرهابيين، والأميركيون الذين سيتابعون عجرفتهم (كما في شخصية المهندس).
وحدها «أمينة» دفعت الثمن، ليمر موتها المرعب بشكل عابر في أحداث القرية، عندما رُجمت بدلاً من «نور» كأي قربان آخر في سلسلة الأضحيات. كان عليها أن تُنهي حياتها لأنها جرؤت على حرق المسافة بين الطرفين المتناقضين. فكرت في السفر إلى الغرب لتصبح أوروبية، أو على الأقل لتظفر برضى «كونزاكيس» الذي كان يعاملها كأي معزاة يقضي وطره فيها. وبالتأكيد (وبحسب التطور «المنطقي» لأي رواية استشراقية)، كان الجلادون ومنفذو حكم الإعدام هم المشرقيين الذين لا يتطهرون إلا بالدم، وبقتل «العرافات» في طقوس العصور الوسطى التي «صدّرتها» أوروبا إلى الشرق.
تبدو «سبعة حجارة للخاطئة» كأنها متأخرة قرنين عن لحظة نشرها. كنا نظن أن زمن الروايات الاستشراقية قد انتهى، لكن نرى فينوس خوري - غاتا تومئ لنا هنا بأن الاستشراق لا يزال حاضراً بقوة، وبأنّ بإمكان محبّي الصورة النمطية للشرق الغرائبي الحصول على «وجبة كاملة الدسم» منكَّهة بتوابل الشرق اللاذعة.