فاروق بلّوفة، السينمائي الجزائري الذي غدره قلبه في التاسع من نيسان/ إبريل في فرنسا، ودفن في تييه قرب باريس، بعيداً عن الجزائر، اسمه مرتبط بلبنان، وله في بيروت رصيد من الأحبّة وجمهور وزملاء، وشهود على تجربة سينمائيّة نادرة تكاد تكون منجزه الوحيد. حين يؤتى على ذكر الحرب الأهليّة اللبنانيّة في السينما، أوّل عنوان يتبادر إلى الذهن هو «نهلا» فيلم فاروق بلوفة الشهير. إذا استثنينا باكورة مارون بغدادي الاستشرافيّة «بيروت يا بيروت» عشية اندلاع الحرب (١٩٧٥)، وقبل سنتين على رائعة برهان علويّة «بيروت اللقاء» (1981)، هناك سينمائي جزائري شاب، أبحر إلى بيروت، ليصوّر الحرب. وفي قلب المعمعة، أنجز فيلماً يعتبر اليوم تاريخيّاً ـــ بالعامية اللبنانيّة ـــ مع مجموعة من الممثلين اللبنانيين (روجيه عساف، فايق حميصي، أحمد الزين، نبيلة زيتوني…)، انطلاقاً من سيناريو كتبه مع الأديب الجزائري رشيد بوجدرة والناقدة الجزائريّ الراحلة موني برّاح، على موسيقى من تأليف زياد الرحباني وقصائد لطلال حيدر وغناء ياسمين خلاط، بطلة الفيلم في دور المطربة نهلا التي فقدت صوتها ذات ليلة على خشبة البيكاديللي… وكانت ياسمين خلاط اكتشاف الفيلم الذي أعلن ولادتها الفنية، لم تعمل إلا بشكل عابر كممثلة ومخرجة، بل تحوّلت لاحقاً إلى الأدب والكتابة.
ملصق فيلم «نهلا»

يعتبر «نهلا» (1979) أوّل تجربة روائيّة طويلة عن دوامة العنف والجنون في لبنان. والحرب تبدو ـــ في مرحلتها الأولى ـــ من وجهة نظر هذا السينمائي الجزائري، رحماً للأمل والنضال والتطلّع إلى التحرر والتحرير واستعادة فلسطين، إذ تقترن أحداث الشريط بمواجهة بين المقاومة الفلسطينيّة والعدو الاسرائيلي في بلدة كفرشوبا الحدوديّة في العام 1975. يوسف السايح (هو اليوم اذاعي معروف في الجزائر) يؤدّي دور المصوّر الصحافي الجزائري الذي جاء إلى بيروت على خطى نهلا، وكان شاهداً على أحلام المدينة وفورتها واشتعال الحرائق. وما زال الفيلم يُذكر كعمل تأسيسي، ووثيقة فنيّة لها طعم البدايات وصعود المشاريع والأفكار الكبيرة. بيروت الأحلام العربيّة، والمقاومة وحركات اليسار، هي التي جذبت خريج معهد السينما الباريسي IDHEC وتلميذ رولان بارت (أنجز بإشرافه أطروحة عن جماليّات السينما ناقشها في «المعهد التطبيقي للدراسات العليا» مطلع السبعينيات). لقد بات أحد الشهود على تلك المرحلة. بدأ فاروق بلوفه حياته السينمائيّة مساعداً للمعلّم المصري يوسف شاهين في «عودة الابن الضال»، وحين خاض مغامرة «نهلا» لم يكن في رصيده سوى فيلم واحد نقدي عن «حركة التحرير» (1973) منع آنذاك من قبل الرقابة الجزائريّة وأحرقت بكراته. ومن الغريب أنّه لم يحقق أي فيلم بعد «نهلا»، بل عاد إلى النقد السينمائي…. وبقي طوال ثلاثة عقود يسافر مع درّته اليتيمة بين الدول والمهرجانات، يناقش الفيلم مع جمهور متجدد متشوق لمعرفة المزيد عن تلك الحقبة الأسطوريّة.
في المنفى عاش ومات فاروق بلوفة، ولم نعلم برحيله إلا عن طريق المصادفة عبر حساب الكاتبة وسيلة تمزالي التي أعادت نشر صور من «الزمن الجميل». كان لا بد، كي يكتمل الوداع، أن توجّه بيروت تحيّة أخيرة للسي فاروق. بيروته التي لم يبق الكثير مما عرفه فيها، لا من رموزها ولا من أحلامها، ستبقى تستعيد صوراً وأغنيات ووجوهاً من «نهلا» وزمنها، كي تحافظ على شعلة الصداقة والزمن الجميل.