عُرف الشاعر والروائي الفلسطيني إبراهيم نصر الله (1954) بعمله على الرواية التاريخية، لا سيما فيما يخص القضية الفلسطينية. وقد شهد مشروعه الروائي «الملهاة الفلسطينية» نجاحات كثيرة. إلا أنّ «حرب الكلب الثانية» (الدار العربية للعلوم ـ ناشرون) الرواية السادسة ضمن مشروعه الآخر «شرفات»، هي التي جعلته يفوز أمس بـ «الجائزة العالمية للرواية العربية ـ بوكر» بدورتها الـ 11 (50 الف دولار مع ترجمة الرواية إلى الانكليزية). رئيس لجنة التحكيم إبراهيم السعافين، علّق نيابة عن لجنة التحكيم قائلاً: «تتناول الرواية تحوّلات المجتمع والواقع بأسلوب يفيد من العجائبية والغرائبية ورواية الخيال العلمي، مع التركيز على تشوهات المجتمع وبروز النزعة التوحشية التي تفضي إلى المتاجرة بأرواح الناس في غياب القيم الخُلُقية والإنسانية».في هذه الرواية، نرى نصر الله الذي لطالما انشغل بقراءة التاريخ ومحاكمته، أو أعاد نسجه روائياً، وقد غيّر زاوية الرؤية. فذلك الراوي الذي يجلس في الحاضر ويفسره عبر الماضي، بات الآن، يسكن في المستقبل لكي يفسر الواقع. كما لو أنّ الحاضر غير موجود، وهو ما دأب هنري ميللر على الحديث عنهُ، فالإنسان موزع بين ماض ومستقبل. لدى ميللر، الماضي هو ما يصنع المستقبل. الكاتب الفلسطيني، يجد المستقبل «أخطر محرك للنفس البشرية». يبرر نصر الله ذهاب راويه إلى المستقبل، بأنّ القليل من الأشياء المتعلقة بالماضي، يمكن الوصول إليها هذه الأيام. يتساءل قارئ عرف الفن انزياحاً عن الواقع، والرواية إخراجاً درامياً لهُ، عن رواية تجيء من المستقبل، الذي يؤسس له عبر سجل من الحروب والنزاعات وعبر شرارات قاتلة قد رُسخت لدى الإنسان عن طريق مشاهد عنف لا تتوقف عن التراكم. عبر مشروعه الملهاة الفلسطينية، لم يتوقف نصر الله عن القول بأنّ أسوأ آلة اخترعها الإنسان هي الحرب. والآن يود أن يقول لنا، إنّ الإنسان كائن تائه، تعبّر الحروب عن تيهه لا عن إصرارهِ. عن خساراته، لا عن سعيه لبطولات ما، في النهاية، «على أحدهم أن يقول لنا بوضوح ما الذي يريده الإنسان».
تتحدث الرواية عن راشد مدير المستشفى، الذي يتزوج بشقيقة ضابط في الأمن، وقد كان يجهل جمالها الذي ما أن يراه، حتى يخبر والدته عن رغبته بالحصول على واحدة ثانية منها. وعندما تقترب منه في الفجر، سيرغب بالحصول على مئة واحدة منها. يراها في سكرتيرته بعد سنوات، فيقع في حبّها من باب التشابه، لا الاختلاف. يتجه نحوها كما لو أنّه يريد اختراقها والخروج من الجهة الثانية، أي أنّه يود أن تخلقه بصورتها. يُسرّب شقيق الزوجة خبر العلاقة لشقيقتهِ، لا لينقذ زواجها وإنّما كي يتحضّر لموقف مشابه قد تدفعه إليه الحياة. إنّه يريد معرفة سلوك راشد كي يعرف سلوكه ذاتهُ. إنّ ذلك الهوس بالاحتفاء بالمختلف وتصديرهِ، بات هوساً في تحطيمه، وتحويل الناس إلى نسخ مكررة عن بعضهم. أمر يظهر في الرواية، فالمختلف ما عاد موجوداً. لذلك بات ينبغي التخلص من التشابه، كما لو أنّ نفي الآخر هو سمة إنسانية، عوضاً عن قبوله ومشاركتهُ، فالحروب التي كانت تخاض بسبب الاختلاف، باتت تخاض بسبب التشابه. يبرز نصر الله فكرته هذه عبر حبكة مشوقة، بلغة سهلة ومتسارعة، لا يتوه عن شاعريته الأصيلة. إنّه يسمي المرضى «أسرى الأمل»، ويبرع في ابتكار لغة موحية مكثفة وغنية في اللحظات الحاسمة.
ينجح راشد في تسويق مشاريعهِ التي تعبر عن الفساد وتنطق بحالهِ، وقد بدأ تجارته عبر رأس مالٍ بسيط هو لسانه، إذ «بالإمكان هزيمة بلد كامل عبر المجاملة». فكرة مشروعه مفادها وضع محاسب إلى جانب السائق والمسعف في سيارة الإسعاف. وكل المشاريع مهما كانت شريفة، يمكن أن يجد الفساد طريقه إليها، كما لو أنّ الفساد هو القاعدة، والمشاريع الشريفة هي الاستثناء المرتبك. عبر هذه الإشارات، راح نصر الله يلتقط الواقع ويدينه. لا تخلو الرواية من إشارات سياسية. تخبر والدة راشد ابنها، بأنّ «الله يحب المعارضة أكثر مما يحب الحكومة»، ويكره الناس تحولهم إلى أشباه لرجال الأمن. في الوقت ذاتهِ، إنّ أسوأ مكان ينظر فيه الإنسان إلى نفسه هي المرايا. يحدث هذا في زمان مفترض حيث السيارات تسير من غير سائقين، والناس يعانون من ضمور في الأعضاء. الأشباه يتطايرون، وقد تجد نفسك أمام نفسك في أماكن العمل أو المستشفيات أو في الشارع. ما يدفع الزوجة إلى الاعتقاد باختلافها، هو الشوق في خلايا زوجها إليها، وما يجعل الضابط يشعر بالراحة للخديعة التي تعرضت لها شقيقته، هو أنّ «رائحة الأخوة عادت إليه». يمضي الناس حياتهم في جعل الآخرين يشبهونهم، وفي لحظة الشبه التي يخلقها الكاتب في هذه الرواية، ما الذي يحصل؟ هل نحتضن الأشباه؟ لا. إنّنا نقتلهم!