ساي توومبلي (1928-2011) الفنان الأميركي، يعرض في بيروت. لكن المعرض ليس لأعماله الفنية التشكيلية، بل لثلاثين صورة فوتوغرافية التقطها بعدسته بين أعوام 1985 و2008. يجوز القول معها إنها أنصع دليل على رؤية الفنان البصرية والتأليفية لكل ما يرى. فالعدسة هنا تضفي هالة على المضامين، عبر الخيار التأليفي لتومبلي، إذ يُشعرُنا بأننا نرى عبر ستارة شفافة أو زجاج غير نقي، يتيح الرؤية ويحجب الدقة في آن. ويأتي المعرض الاستثنائي هذا بالتعاون مع وزارة الثقافة اللبنانية، وبالاشتراك مع Fondazione Nicola Del Roscio، حيث يحتضن متحف سرسق المعرض، تحت عنوان: «ساي تومبلي: صورٌ فوتوغرافية». تتوزع الصور على مواضيع متعدّدة؛ منها: الفضاءات الحميمة، المناظر والمواضيع الطبيعية.توومبلي الفنان الإشكالي المعاصر، لا يمكن رؤية أعماله من دون تأثّر واضح. حتى إن أكثر منتقديه شراسةً يعترفون له بأن أعماله تقلقهم، لا بل تشغل تفكيرهم وتحثهم على التحليل. وهنا صورٌ التقطها بنفسه لا يمكن للرائي إلا أن يرى عبرها حضوره الكامل في المكان. ساكناً الخيالات التي خلّد ثوانيها، فصارت أبداً. لكن مهلاً، أليست الفوتوغرافيا لعبة الإمساك باللحظة الراهنة وجعلها دهراً؟ فما هو الفريد في التقاطات توومبلي شبه الكلاسيكية؟
الواقع أن الفنان الأميركي وثَّق حياته اليومية عبر الصور الفوتوغرافية، مذ كان طالباً في كلية «بلاك ماونتن كولدج» مطلع الخمسينيات، حتى وفاته عام 2011. صوَّرَ المناظر الطبيعية الخضراء، والمباني والمنحوتات القديمة مع تفاصيلها عن قرب، والاستوديوهات من الداخل والطبيعة الصامتة للأغراض والزهور. ثمَّ مع مطلع التسعينيات، استخدم ناسخات تخصُّصية لتكبير صور الـ«بولارويد» على ورق كامد.
المفارقة أن القليل من عشاق الفنون البصرية يعرفون عن كثب هذه الصور، ذات الهالة الفريدة. فهنا لا مكان لدقة الأناقةِ الكاملة الهندسة، ولا لعدسة ملمَّعة باردة الزوايا. بل نخال الصورة مغموسة بكتل عاطفية وعواصف انفعالية. يبثها ساي توومبلي في الصور كما كان يفعل بضربات الريشة المبعثرة فوق لوحاته. هو الإشعاع الضوئي المنبعث من داخل العمل إلى خارجه، بل هي الهالة.
هنا نعود إلى أسئلة البروفسور الباحثة ماري جايكوبس (المديرة السابقة لمركز الأبحاث الفنية والعلوم الاجتماعية والإنسانيات، التابع لجامعة كامبردج). وقد صدر لها منذ عامين كتاب تحليلي في قراءة أعمال توومبلي بعنوان Reading Cy Twombly: Poetry in Paint . تسأل جايكوبس: «لماذا تأتي هذه الصور الفوتوغرافية، التي تبدو متواضعة، محمّلة بالهالة الكلاسيكية، فتجرَّ وراءها أوشحة أسطورية؟ تبدو صور توومبلي كأنها تسبر أغوار الأماكن الحميمة في الأجسام ذات الهالة ـــ من رسوم، من سجاجيد، من تفصيل منحوتةٍ: كأُذن، أو خصلة شعر متجعدة ـــ مثلما تبدو المزهريات الخاطفة للأنفاس في «بدون عنوان» (2002؛ لوح 25) كأنَّها تجمع ثنايا القماش حولها، بما يذكِّر بمهارات النحّاتين الكلاسيكيين في نقش الطيّات الرخامية. بالنسبة إلى تومبلي، هذه التفاصيل ليست بريئة على الإطلاق».
فهنا تفصيل من زهرة، أو صورة قريبة لملفوفة، أو حتى صورة لمنحوتة، ثم صورة لشاطئ بحر تظهر عليه الشماسي الزرقاء، يخالها الرائي أليفة لا بل يكاد يقول: أعرف المكان! أجزاء من يوميات عادية، تجعلها عين الفنان غير المكترث لهندسة أو حسابات نقاوة الصورة، أكثر حميميةً. بل أكثر إنسيّةً من الفوتوغرافيا المتقنة حد الألوهة.
وفي ذا، تحليل خاص لجايكوبس: «يمكن النظر إلى صور توومبلي بأنَّها بورتريهات ذاتية غير مباشرة، وكذلك لوحات ضوئية. على الرغم من أنَّها لا تُقدِّم أي مرتكزٍ واضح للولوج إلى حياة الفنان الباطنية، ولا تعبِّر عن أي جرح على طريقة رولان بارت، أو بقعة محددة، إلا أنها تستحضر جوهراً يمكن أن نسميه (ولو على نحو خاطئ) هالة توومبلي».
وفي اقتباس من والتر بنجامين، في كتابهThe work of Art in the Age of its Technological Reproducibility (1936)، استعارة للتعريف الشهير بالهالةِ كنسيجٍ غريب من البُعد والقُرب: نسيج غريب من المكان والزمان: الظهور الفريد لمسافة ما، ولو بدت قريبة جداً.
بالتزامن مع المعرض، تم إنتاج منشور/ كُتيِّب من 32 صفحة باللغتين العربية والإنكليزية، يحوي نصّين؛ أولهما: «هالة الليمون» بقلم ماري جايكوبس، والثاني: «نوعٌ من الهالة» لإدموند دو فال.
يُذكرُ أنه من بين مئات المتخصصين ممن كتبوا عن ساي توومبلي، اختار منسقو المعرض اللبنانيون (من الوزارة أو المتحف)، نص الخزاف والكاتب الصهيوني إدمون دو فال كي يُنشر ويُترجم (إلى جانب نص جايكوبس). والمرجح ببساطة، أنه قد سقط عنهم ذلك سهواً، ونُقدِّر أنهم حقيقةً لا يعرفون من هو إدمون دو فال. لذا واجبنا هنا الإشارة إلى أن دو فال هو من المحاضرين المنظِّرين للنهب الأركيولوجي للشرق الأوسط في ـــ المتحف «الوطني» الإسرائيلي ـــ أي، المؤسسة الأضخم لمساندة الهاسبارا الصهيونية والانتهاك الصهيوني للأرض العربية، والقائمة على نهب الإرث الأركيولوجي والفني الشرق أوسطي والعربي، ثمَّ الفلسطيني. ولمن قد تخونه فطنته عن إدراك موقع وأهمية هذا الصرح، فهو في المربع الأمني الصهيوني الأهم، ومحاذٍ مباشرةً لمبنى الكنيست الصهيوني، كما للمحكمة العليا الصهيونية في قلب القدس المحتلة. والمهم في الموضوع أن آخر محاضرات دو فال هناك تحديداً، كانت منذ أقل من عامين، تحت عنوان: «مصداقية مصادر الاستحواذ/ الاقتناء الفني»!
عذراً... أقلنا «مصداقية الاستحواذ» في أكبر مركز نهب أركيولوجي؟!