كان | موجات عارمة من التصفيق والاستحسان استقبلت، أمس، العرض الرسمي للفيلم المصري «يوم الدين»، باكورة المخرج الشاب أبو بكر شوقي. هذا العرض جاء ليضع حدّاً لـ 21 سنة من الغياب المزمن للسينما العربية، إذ لم ينافس على «السعفة الذهبية» أي فيلم عربي منذ «المصير» ليوسف شاهين (سعفة خمسينية «كان» – 1997). وفي ظل الحفاوة النقدية المنقطعة النظير التي حظي بها هذا الفيلم، بات واضحاً أنّ هذه العودة العربية الى واجهة الكروازيت، بعد سنين عجاف، لن تمر مرور الكرام، اذ سيكون لـ «يوم الدين»، بالتأكيد، نصيب في جوائز هذه الدورة من «مهرجان كان».من خلال قصة صداقة مؤثرة تجمع بين «بيشاي»، الكهل القبطي الذي تخلت عنه عائلته، وهو طفل، في دير يعنى بالمصابين بالجذام، ومحمد أوباما، الطفل النوبي الذي تربى في ملجأ أيتام مجاور، نجح أبو بكر شوقي في الغوص عميقاً في الروح المصرية الجميلة. روح تتحدى شظف العيش وقسوة حياة الفقر والتهميش، بفضل روح النكتة وحب الحياة اللذين يمنحانها ألقاً مميزاً يجعلها أشبه بالبنفسج الذي يبهج رغم كونه زهراً حزيناً، كما تقول أغنية بيرم التونسي الشهيرة.
وسط أحياء العشوائيات القاهرية وناسها الطيبين، تتوثق الصلات بين الكهل بيشاي والطفل أوباما الذي يرافقه في رحلة شقائه اليومية، وسط مكبات النفايات، لمساعدته في البحث بين أكوام الخردة عما يمكن إعادة بيعه، ببضع جنيهات، لسد الرمق. فجأة، وعلى إثر وفاة زوجته المصابة بمرض عقلي، يقرر بيشاي مغادرة شلة رفاقه المجذومين، للعودة الى مسقط رأسه في «قنا». يصر أوباما على مرافقته في رحلة طويلة وآسرة على ضفاف النيل، باتجاه العمق الصعيدي. ينطلق الثنائي برفقة ثالثهما، الحمار «حربي»، الذي يباغته الموت في منتصف الرحلة، ليتركهما في مهب سلسلة بلا نهاية من المصاعب والعراقيل. وإذا بمغامرة العودة إلى الجذور القناوية لبيشاي، تتحول إلى رحلة شيقة تعكس بامتياز جمال بلاد النيل وكرم وأنفة ناسها البسطاء.
بعيداً عن أي بكائيات ميلودرامية، اتخذ الفيلم شكل تحفة بصرية غرفت من واقعية صلاح أبوسيف الحزينة («بداية ونهاية» 1960 ــــ «السقا مات» 1977)، ومن عباءة البدايات الشاهينية («ابن النيل» 1951 ــــ «باب الحديد»1958 ). استلهم أبو بكر شوقي أجواء فيلمه من الـ Road Movies، الذي سبق للسينما المصرية أن نحتت منه روائع عدة، من «أحلام هند وكاميليا» لمحمد خان (1988) إلى «ثلاثة على الطريق» لمحمد كامل القليبوي (1993).
وإذا بالمعجزة تتحقق، لتجعل من هذا الفيلم ــــ الذي ينبئ بميلاد مخرج سيكون له شأن ــــــ واحدة من تلك التحف البصرية النادرة في تاريخ الفن السابع. معجزة منحت لابتسامة كهل مجذوم، وهو يتأمل في شمس الصعيد المشرقة بعينين لا ترمشان، ألقاً يفوق جمال كل نجمات ونجوم السينما الذين تزاحموا أمس، على غرار كل يوم، بكامل زينتهم، على سلالم «كان» المفروشة بمخمل البساط الأحمر!