التصدّي لشخصية «هارون الرشيد» (سيناريو وحوار عثمان جحا ـ إخراج عبد الباري أبو الخير- يؤدي الشخصية النجم قصي خولي) بعمل تاريخي، مغامرة غير محسوبة النتائج. السبب ببساطة أنه سبق تقديم هذه الشخصية في أعمال مستقلة، ثم مرّت ذاتها في أكثر من مطرح درامي. على أيّ حال، كان القصد من المسلسل الرمضاني الحالي، الخوض في الكواليس الخلفية، والواجهات المتقدمة لقصور الخليفة العبّاسي الأشهر، لتقديم مادة درامية تاريخية، لا تدّعي ملامستها عتبة الوثيقة، أو اقترابها من الأهمية الأرشيفية. إذاً كنّا على موعد مفترض مع لعب درامي في هوامش «الرشيد» بطريقة ولغة القائمين على العمل. على أن تكون المادة التاريخية موضوعة في سياق فني معاصر، يعتمد بشكل أساسي على الإبهار البصري، والجذب الشكلي، والأبهة في الصورة، والأزياء، ومواقع التصوير، وكل المتممات الأخرى. هذا ما كنا ننتظره من شركة «غولدن لاين» المنتجة للمسلسل، لكن الوقت القياسي الذي تمّ التحضير والتصوير فيه، أجهز على كلّ التوقعات من الناحية الفنية! من غير المعقول أن يحضّر مسلسل بهذه الضخامة، وتُستقطب كوكبة من النجوم العرب لأداء الأدوار الرئيسية، في أقلّ من ثلاثة أشهر، من دون أن يعرف الجمهور ما الذي كان يؤخر الشركة السورية.
لاحقاً، تبيّن أن الرقابة في التلفزيون السوري وقفت حائط صدّ صلب في مواجهة «هارون الرشيد». إذ أرادت منع خروجه إلى الضوء، وقد تابعنا سلسلة متلاحقة من التصريحات النارية التي أطلقتها لجنة قرائها والتعليقات الفايسبوكية لعضو اللجنة الكاتب السوري قمر الزمان علّوش يتّهم فيها المسلسل بأنه «يؤجج نار الطائفية ويسيء لحلفاء سوريا اليوم». لكن حتى منتصف المسلسل، لم نلمح أي توجّه يشي بهذه النيران.
يجدر القول بأن النجم السعودي عبد المحسن النمر يلعب دوراً محورياً في العمل مؤدياً شخصية «جعفر بن يحيى البرمكي» بمعنى أنّه لو أنه كان يسيء ولو بطريقة تلميحية لطائفة معيّنة، فإن الرجل ما كان ليضع نفسه في هذا المكان. كذلك هي الحال مع غالبية نجوم المسلسل وفنييه. على أيّ حال، أُنجز العمل بضربة قياسية، ولم يتمكّن من ترك الإبهار المطلوب على المستوى الفني، لكنّ جوكره الرابح كان الأداء التمثيلي لنجومه، بخاصة في الحلقات التأسيسية، إلى جانب اللغة التمثيلية المدروسة التي اقترحها كلّ من سمر سامي وعابد فهد. هكذا، يمكن تقسيم العمل إلى مراحل عدة بحسب المتابعة النقدية، لأنّه يبدأ بطريقة (أول 5 حلقات) حامية يتمكّن من شد متابعيه. ويبدو واضحاً جهد الكاتب في صياغة حوارات محبوكة، واجتهادات ملفتة للغة العربية، ومحاولة عصرنة التاريخي، كأنك ترى عملاً اجتماعياً، صارت أحداثه في الماضي. هكذا، تتصاعد الدراما بخطى ثابتة وبتكنيك رشيق، يواكبه لعب بهلواني في طريقة أداء الممثلين، وصراع واضح المعالم حول أحقيّة ولاية العهد. الخليفة موسى الهادي (عابد فهد) يسعى لتجييرها لطفله جعفر بدلاً من هارون. والدته «الخيزران» (سمر سامي) تريد تثبيت أركان الدولة القائمة على الشرائع والسنن، واستيفاء حقّ الرشيد الذي انصاع لأمّه وجلس شبه مجبر على الكرسي بعدما دسّت السم لأخيه، فقتلته. هنا يطلّ الرشيد في عمر 22 عاماً، لكننا لا نلمح أي تغيير في شكله يقنعنا بأنه في هذه السن فعلاً.
الشخصيات النسائية بغالبيّتها، تمرّ تاركة انطباعاً واضحاً للجمال المصطنع


لاحقاً، تموت «الخيزران» بعد أن تحجّ لبيت الله الحرام. ثم يمرّ الزمن 15 عاماً، لتأتي مرحلة مترهلة درامياً نجد بأن الأمين بن زبيدة الهاشمية، والمأمون ابن الجارية الفارسية «مراجل» المدعوم من «البرامكة»، قد شبّا وقد انكبا على الاقتتال، بينما استعار «الرشيد» طبقة صوت مفتعلة يبدو واضحاً أنها اقتراح أدائي لكنّه ليس مقنعاً، بقدر ما تنجزه حركات الوجه، وردّات الفعل والصيغة التمثيلية بشكلها النهائي، لنجم يثبت إمكانية تصديه تباعاً لأدوار البطولة المطلقة على مختلف تنويعاتها. لكنّ الغريب أن كلّ نساء القصر لم يكبرن ولم تترك السنون نوائبها على وجوههن، لا زبيدة (كاريس بشّار) زوجة الرشيد ولا حتى جواريها، ولا العبّاسة شقيقته... الشخصيات النسائية بغالبيّتها، تمرّ تاركة انطباعاً واضحاً للجمال المصطنع، وآثار الجراحات الظاهرة على غالبية الأدوار.
لكن مهلاً! لن تكون تلك الهنّة ذات مغزى إلى أن نشاهد الرشيد يخاطب ولديه بصيغة الجمع؟! كأن القائمين على تصوير المشهد ليس لهم أي دخل باللغة العربية. وفوق علّتهم تصدّوا بعين جريئة أكثر من اللازم لواحدة من أشهر الشخصيات العربية في التاريخ! اللافت أن السيناريست السوري سامر رضوان التقط عبر صفحته الشخصية على الفايسبوك أن «الرشيد» يردد شطراً شعرياً في حواره مع ولديه كي لا يستعدي أحدهما الآخر. والشطر هو فعلياً للشاعر المصري هشام الجخّ! حيث يقول: «العود قوي بحزمته، ضعيفاً حين ينفرد»، فزاد ذلك من مشاهدات الحلقة (رقم 9) على الانترنت، قبل أن تدور رحى القصة على «الواتس آب» بين نجوم الوسط الفني، من دون أن يلتفت أحد إلى أن الفكرة تاريخية قيلت في مرّاتها الأولى على لسان المهلّب بن أبي صفرة الأزدي الذي دعا حين موته بسهام، فحزمت ثم قال لمن حضر من أولاده «أفترونكم كاسريها مجتمعة؟ قالوا لا، قال: فهكذا الجماعة».
عموماً نصف العمل لا يكفي للحكم عليه بشكل نهائي. لكن ربما مشاهدة نتف من أكثر الأعمال مشاهدة في سوريا وهو المسلسل التركي «قيامة أرطغرل» بنسخته المترجمة، تفي بالغرض لتقول: بأنّ السوريين ودّعوا العصر الذي كانوا يصنعون فيه عملاً تاريخياً مدهشاً!