قبل الاستراحة الصيفية وإخلاء الساحة لصخب المهرجانات السياحية الكثيرة (جداً!)، يودّع «ليبان جاز» (و«ألفتريادس»، بالتعاون مع «المعهد الفرنسي في لبنان») ذواقة الجاز والبلوز من الجمهور اللبناني بوعدٍ أخير يحييه المغني هيو كولتمان (1972) وفرقته. قد يظن متتبّعو هذا المهرجان منذ سنوات، أنّ مؤسسه، كريم غطّاس، رمى صنّارته هذه المرّة خارج الحدود الفرنسية أو الفرنكوفونية عموماً، لاختيار ضيفه المرتقب، البريطاني المولد والنشأة. لكن في الواقع، لم يحد «ليبان جاز» عن المنطقة التي «يصطاد» فيها. إذ إن كولمان انتقل منذ سنوات للعيش في العاصمة الفرنسية، وتعاون مراراً مع فنانين فرنسيين في أعمال مشتركة (إيريك تروفاز، كاميليا جوردانا...) ومعظم أمسياته تُنظّم في فرنسا. أضف إلى ذلك أن الشهرة التي يتمتّع بها اليوم أتت نتيجة حيازته لقب «صوت العام»، السنة الماضية، في التظاهرة التقييمية الفرنسية Victoires de la musique، رغم أن مسيرته الفنية تعود إلى مطلع تسعينيات القرن الماضي! بالتالي، وكما هي الحال في معظم الأحيان، من يتتبّعون بجدية النتاج الموسيقي في فرنسا، يستطيعون بسهولة نسبية توقُّع «التالي» في «ليبان جاز».

هيو كولتمان فنان تعود بداياته إلى ما قبل أكثر من ربع قرن، عندما أسس مع شلة من الأصدقاء فرقة الروك بلوز The Hoax عام 1991. أصدر معها بدءاً من عام 1994 ثلاثة ألبومات، وقادها في جولات أوروبية وأميركية، قبل أن يفترق الأصدقاء عام 1999 وينطلق كلٌ منهم في مسيرةٍ مستقلة. إثر حلّ فرقته، انتقل كولتمان إلى باريس، وبدأ يشق طريقه ويكتب أغنيات ألبومه الخاص الأول الذي صدر عام 2008، تلته إصدارات عدة أبرزها تحيته إلى الـ «كرونر» الشهير نات كينغ كول (1919 — 1965) وهي بعنوان Shadows، استعاد فيها كلاسيكيات الأخير مثلNature Boy ،Smile ،Mona Lisa وغيرها، ونال عنها اللقب التقديري المذكور أعلاه (صوت العام/ 2017) وألبوم صدر منذ أسابيع بعنوان Who’s Happy?. العمل الأخير هو الرابع في مسيرة كولتمان المستقلة، وحوى أعمالاً جديدة وكلاسيكيات مستعادة بتوزيع جديد ونفس خاص، وتناول في جزءٍ منه مواضيع عائلية حميمة كعلاقته بابنه (Little Big Man) ومرض والده (All Slips Away). بالإضافة إلى هذا النتاج، وخلال الفترة المستقلة من مسيرته، كانت لكولتمان إصدارات استديو وتسجيلات حية مع فرقته التي اجتمع وافترق أعضاؤها أكثر من مرة في العقدين الأخيرين.
يقول هيو كولتمان إنه اكتشف سحر الجاز عام 2012، بعد سنوات من العمل في أجواء فنية أخرى (على رأسها الروك بلوز والبوب والفولك)، فأحدث الأمر تغييراً عضوياً في علاقته بالموسيقى. لكن بخلاف ما يوحي هذا الكلام، لم ينصرف الرجل كلياً إلى الجاز. إصداراته التي تلت هذا المنعطف، لا تحوي إلا قدْراً محدوداً من هذا النمط، إلى جانب البلوز، الروك أند رول، الروك بلوز، البوب التقليدي، الـRnB، الفولك…
هويته العميقة لا تزال أقرب إلى الروك والبوب


لناحية التوزيع الموسيقي، نسمع عنده المرافقة البسيطة لفرقة مختصرة أو لغيتار كلاسيكي فقط (بالأخص في الأغنيات ذات الطابع العاطفي أو العائلي) وكذلك التوزيع المبني على النحاسيات، بما فيها كبير العائلة، التوبا، الذي يلعب دور الباص أحياناً، في حين يقتصر حضور الوتريات على بضع أغنيات فقط، خصوصاً في Zero Killed (ألبومه الثاني). في هذا السياق، يشير الإعلان عن حفلته البيروتية إلى وجود فرقة نحاسيات (Big Band) من ثمانية موسيقيين. وهذا مثير جداً للاهتمام، إذا ما صدقت المعلومة (بمعنى أن الإشارة إلى هذا الرقم لا تشمل البيانو والغيتار والدرامز وكولتمان نفسه)، إذ قلّما شهدنا في «ليبان جاز» حفلة لا تنازلات لوجستية أو مادية فيها.
لدى الحديث عن هيو كولتمان، من الضروري التوقّف بإيجاز عند ثلاث نقاط. الأولى تخص صوته الذي «يعكس» بشيء من الأمانة، ماضيه لا حاضره. أي إن نبرته وأسلوبه يؤكدان بما لا يقبل الشك أن هويته العميقة (الناتجة من السمع والممارسة الموسيقية والشغف) لا تزال أقرب إلى الروك والبوب (وفيها نفحة روك مستقل حديث)، بينما لا يزال «حضور» الجاز في كيانه ضعيفاً. النقطة الثانية تخص الشكل الخارجي، إذ لا يتمتع المغني الإنكليزي بجاذبية الـ«كرونر» المعروفة في هذا النمط الموسيقي، أقله كما نعرفه في منتصف القرن الماضي أو حديثاً، وهذه ملاحظة عامة بدون مفاعيل فنية إيجابية أو سلبية. أخيراً، تتعلق النقطة الثالثة بأمرٍ شكلي/ فنّي، أي تعبيري بالمعنى الجسدي للكلمة. هذه مسألة شديدة الحساسية والدقة، وقد لا يتفّق اثنان على مقاربتها، لذا نترك تقييمها (صادقة؟ مبالغ فيها؟ عفوية؟) للجمهور الذي سيحضر الحفلة. فكولتمان يُكثِر من «الحركات» (فمه ووجهه وجسده) أثناء الغناء أو حتى خلال مقطع مرتجَل من أحد أعضاء الفرقة. لكل نمط موسيقي «قاموسه» في هذا المجال (مثلاً: التفاعل والتعبير في الروك الصاخب لا يمكن إسقاطه على الزجل اللبناني!)، ولكل موسيقي «لغته ومفرداته» الجسدية للتعبير عن أحساسيه. ويقول أحد السينمائيين الفرنسيين الكبار بما معناه: كلّما تعاظمت الأحاسيس داخلياً، تضاءل ظهورها خارجياً!

* هيو كولتمان: 21:00 مساء اليوم ـــ «ميوزكهول ـ الواجهة البحرية» ـ للاستعلام: 03/807555