بدأ البحث من مؤلّف بغلاف أصفر وجده ريّان تابت (1983) في مكتبة العائلة بعنوان «دير تلّ حَلَف» لماكس فون أوبنهايم، سيعيده عقوداً إلى الوراء. هي «قصّة تجسّس حصلت عام 1929» كما يخبرنا نصّ معرض «فُتات» الفردي للفنان اللبناني الذي يستمرّ حتى 4 آب (أغسطس) في «غاليري صفير زملر» (الكرنتينا ــ بيروت). يتفرّع معرضه الجديد من مشروع فنّي استهلّه بتجهيز «متحجّرات» (2006) الذي وضع فيه المكان اللبناني المتبدّل في حقائب اسمنتية. جاء تابت من اختصاص العمارة إلى الفن. لذلك، لا يغيب التفكير في المواد واستخداماتها عن أعماله. غالباً ما يخبئ فيها ترميزات سياسيّة وجغرافية من تاريخ المنطقة كما في عمله «وجه العدو مرسوم في الرصاص» (نال عنه «جائزة أبراج كابيتال للفنون» عام 2013)، وفي «البحر الميّت وأجزاؤه الثلاثة» الذي لجأ فيه إلى طين البحر الميت كمادّة لتجهيزه حول تقسيم البحر جرّاء الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين. في معرضه الجديد، تجرّ كل سرديّة الأخرى، شذرات من السيرة العائليّة لتابت ومن الأحداث السياسية التي رسمت تاريخ المنطقة. يعرض صوراً شخصيّة للجدّ الأكبر فائق بُرخُش ورسائل خاصّة وحقيبة توثّق إقامته لمدّة ستة أشهر في الموقع الأثري لتلّ حلف السوري عام 1929. ستكون هذه المقتنيات فاتحة الممارسة الفنية المتشعّبة التي يتّبعها ريان تابت في معرضه، معتمداً على الأداء الصوتي والتوثيق والخرائط والرسم والسرد والأركيولوجيا. تأتي تجهيزاته الفنية السبعة التي نفّذها خلال إقامة فنية في ألمانيا على مدى عامين، فسحة للتأمّل في القطع الأثريّة نفسها التي لا تتبدل بفعل الوقت والطبيعة فحسب، بل تعيد الأحداث السياسية صنع سياقات جديدة لها. حين يستعيدها خلال هذه اللحظة الدموية في سوريا، فإن علاقة الجدّ مع أوبنهايم وما يقع بينها من أحداث، تصبح غطاء مقصوداً لأسئلة كثيرة تتعلّق بالثقافة الماديّة، وتاريخ الاستعمار وتعدياته، وجغرافية المنطقة وطبيعة الأرض والأهم الآثار وسرقتها التي يضع لها سياقاً تاريخياً ومستقبلياً بهدف البحث عن طرق وأساليب معاصرة تحفظ ما أخفاه الماضي أو تبعثه من جديد.

سحر المشرق

بعد تقديم قراءة أدائية لنصّه «عزيزتي فيكتوريا» الذي يتوافر في المعرض عبر تجهيز سمعي لمدّة ثلاثين دقيقة، تقام جولات تعريفية وتفسيرية في «غاليري صفير زملر» كل ثلاثاء طوال مدّة المعرض باللغات الإنكليزية والعربية والفرنسيّة. وبالتعاون مع «معهد غوته» في لبنان، سيُعرض وثائقي «ماكس فون أوبنهايم ــ سحر المشرق» لموريس فيليب ريمي الذي يتناول سيرة أوبنهايم وافتتانه بالحضارة المشرقية، عند السابعة من مساء اليوم الأربعاء.


عيّنت السلطات الفرنسيّة الجد الأكبر لتابت (يدعى فائق برخش) ليكون أمين سرّ الديبلوماس الألماني ماكس فون أوبنهايم بهدف جمع المعلومات عن التنقيب الذي كان يعمل عليه الأخير في قرية تلّ حلف السورية. كان ذلك أثناء الاحتلالين الفرنسي والبريطاني، حين كان الألمان يرسلون ضباط مخابرات في بعثات إثنوغرافيّة وأثريّة كتمويه على العمل المخابراتي للحصول على المعلومات المطلوبة تحضيراً لهجوم عسكري. اكتشف الأركيولوجي الألماني المهووس بالآثار، الموقع الآرامي عام 1899، لكنّ أحداثاً كثيرة عرقلت العمليّة، منها الحرب العالميّة الأولى، قبل أن يتمكّن لاحقاً من نقل مجموعة منها إلى متحف «تلّ حلف» الذي افتتحه في مصنع مهجور في شارلوتنبورغ الألمانيّة. لا نعلم إن كان تابت قد تعمّد إخفاء وقائع تكشف مصادرة السلطات السورية حينها لما اعتبرها أوبنهايم ممتلكاته الخاصّة من الكنوز الآرامية، مدّعياً أنه اشتراها من بعض قبائل البدو هناك. أمام هذه السرديّة، يلجأ تابت إلى تكثيف جوانب محدّدة وإشكاليّة منها عبر تجهيزاته الفنية. في «جينيالوجيا»، علّق قطعاً من بساط بدوي مصنوع من شعر الماعز جاء به فائق برخش من تل حلف. هذا البساط هو ممتلكه الوحيد الذي بقي له قبل وفاته. أورث كل قطعة منه إلى أبنائه طالباً منهم توريثها قطعاً أيضاً إلى أبنائهم بدورهم. وهكذا حتى لا يبقى منها إلا نتفاً صغيرة. القطع المعلّقة ضمن ما يشبه الشجرات العائلية المنفصلة، تحيل إلى أبناء الجد الأكبر. من بين 27 قطعة هو ما صار عليه البساط الأصلي، استطاع تابت أن يستعير 12 واحدة فقط. استبدل تابت تلك الناقصة بأخرى مصنوعة من الكتّان، أو ترك أمكنتها فارغة كمساءلة لمعنى الانتماء والتوارث العائلي وطبيعته. ثمّة سياقات متوازية في المعرض. إذ إن هذا الفراغ يبدو مرآة لفراغ آخر تسبّب به سقوط قذيفة على متحف «دير تل حلف» في ألمانيا خلال إحدى الغارات على برلين في الحرب العالمية الثانية. تفتّتت معظم مقتنيات المتحف، ونقلت قطعها المهشمة التي تبلغ 27 ألف قطعة إلى «ألبيرغامون»، حيث ما زال يتم العمل على تركيبها حتى الآن. يبدّل تابت من أدواته محاولاً خلق مواد وممارسات فنية جديدة من هذه الخسارة الأثرية التي تنفي خطابات الاستعمار القائلة بأن الآثار ستكون محمية في الغرب. في مساحة أخرى من المعرض، يقترح طريقة لإحياء هذا القطع المفتتة. كيف حفظها الآن؟ كل ما يفعله تابت هو إعادة بناء لهذا المتحف المدمّر، مضيفاً إليه بعض العناصر الأخرى. تمكّن الفنان من الوصول إلى هذه الشذرات المتحفية خلال إقامة فنيّة في برلين لينجز عمله «شظايا البازلت». يتألف العمل من مئات الورقات البيضاء التي نقش عليها تابت سطح العمل. وضع أوراقاً بيضاء على إحدى القطع المفتتة وحكّها بقلم فحم، محتفظاً بأحد وجوه هذه البقايا المجهولة بوسائط فنّيّة أخرى. باللجوء إلى الأوراق والفحم، يتبع تابت الطريقة نفسها لحفظ وجوه 24 من أصل 194 لوحاً حجرياً عثر عليها أوبنهايم عام 1911. إنها ألواح حجرية مصنوعة من البازلت الأسود والحجر الجيري لحيوانات ونباتات وكائنات أخرى. لقد فقدت وسرقت فيما يقبع أقلّ من نصف عددها في «متحف ألبيرغامون» في برلين، وأخرى في «متحف حلب»، وأربعة في «متحف المتروبوليتان» في نيويورك. يعيد تابت تكوين ما يشبه الهويّات البصريّة لها. يقدّم لنا شكلاً متطوّراً من هذه الحجارة، يتمثّل في سطحها المنقوش على الورق الأبيض. فوقها، يعلّق لائحة متحفية كاملة للـ 194 لوحاً، الضائع منها والموجود، تتضمّن المعلومات المتوافرة عنها وعن أمكنتها وحالاتها.
كلمة «ضائع» هي الأكثر تكراراً في سير الألواح، ما يشير إلى الحجم الفادح لتجارة القطع الأثرية وسرقتها خلال فترات الاحتلال والاستعمار. يواصل تابت التفكير في محتويات موقع تلّ حلف الأثري، وفي اللعنة التي لاحقت القطع من الموقع إلى المتحف الألماني المهدّم. هذه المرّة يعاين دمار تمثال فينوس خلال قصف المتحف أيضاً في تجهيزه «آه، جميلتي فينوس». كانت فينوس المصنوعة من البازلت الأسود هي التمثال المفضّل لدى أوبنهايم، والقطعة الفنية الأساسية في متحفه. يدعونا تابت في المعرض إلى رؤية فينوس مقسّمة إلى أجزاء متباعدة تزعج الرؤية أكثر مما تقدّم لها شيئاً.

اعتماد على الأداء الصوتي والتوثيق والخرائط والسرد والأركيولوجيا

لقد صنعها من قالب التمثال الأصلي الذي كان قد استخدمه مرمّمو متحف «البيرغامون» لإعادة وصل أجزائه المبعثرة. يجمّد تابت فينوس في حالتها الهشّة. يعرض أجزاءها المفكّكة فوق 6,5 طن من بلاط البازلت الأسود (يساوي حجم التمثال الأصلي) استورده من مقلع حجارة في سوريا التي تشهد حرباً منذ سنوات. هكذا دبرّ لقاءً بين حدثين سياسيين عنيفين في بلدين مختلفين، جمعت بينهما الضحيّة الجميلة فينوس. مثقلاً بالسخط بعد دمار المتحف، لم يتمكّن اليأس من أوبنهايم؟ خلّف وصيّة لكل من يريد العمل على تجميع قطع المتحف المبعثرة: «كن صبوراً! حظاً سعيداً! وابق مبتسماً!». في عمل يحمل اسمه هذه العبارة، استخدم تابت قلم «مون بلان» صنع خصيصاً بنسخ محدودة لتكريم أوبنهايم عام 2009. على قطعة عملاقة من الكتّان، كتب هذه العبارة في المعرض بطريقة مزخرفة وبخطوط متداخلة تترجم حجم الجهد الهائل والمطلوب ممن يريد إعادة وصل أجزاء القطع المهشّمة. في جزء آخر من المعرض، يستكشف معنى حدود البلدان والاستعمار عبر تجهيز لخيم عسكرية استلهمها الألمان عام 1899 من الأزياء البدويّة العربية، واستخدمتها الجيوش الروسية والألمانية والفرنسية والأميركية في هجوماتها العسكرية في شمال أفريقيا وبلاد الشام والخليج خلال القرن العشرين. إحدى مهامّ أوبنهايم كانت جمع المعلومات، وتوثيق حياة قبائل البدو التي كتب عنها أربعة مؤلّفات، بالإضافة إلى شجرة لنسبها مع خرائط لتنقلاتها بين فصلي الصيف والشتاء. لا يجاور تابت بين هذه العناصر عبثاً. يستعيد مسارين: واحد لقبائل لم تقف الحدود يوماً عائقاً في وجه تنقّلاتها، وثان للجيوش الاستعمارية التي لم تجئ إلا من أجل الحدود، متحصّنةً بخيم عسكرية. كل ذلك في وقت يشهد فيه العالم العربي إحدى أكبر الهجرات إلى خارج الحدود هرباً من الموت.

* «فُتات» لريّان تابت: حتى 4 آب (أغسطس) ــ «غاليري صفير ــ زملر» (الكرنتينا ــ بيروت). للاستعلام: 01/566550